الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 179 ] فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض ، وعلى المنبر ، وعلى البعير ، وعلى الناقة . وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : ( صبحكم ومساكم ) ويقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ، ويقول : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )

وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء : إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار ، وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ، وسنته تقتضي خلافه ، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله ، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد ، وهو اختيار شيخنا قدس الله سره .

وكان يخطب قائما ، وفي مراسيل عطاء وغيره ( أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال : السلام عليكم ) قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وكان يختم خطبته بالاستغفار ، وكان كثيرا يخطب [ ص: 180 ] بالقرآن . وفي صحيح مسلم عن ( أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس ) ، وذكر أبو داود عن ابن مسعود ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا ) وقال أبو [ ص: 181 ] داود عن ( يونس ، أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحو هذا ، إلا أنه قال : ومن يعصهما فقد غوى )

قال ابن شهاب : ( وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب : كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما هو آت ، ولا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخف لأمر الناس ، ما شاء الله لا ما شاء الناس ، يريد الله شيئا ويريد الناس شيئا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس ، ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله ، ولا يكون شيء إلا بإذن الله )

وكان مدار خطبه على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده ، وتعليم قواعد الإسلام ، وذكر الجنة والنار والمعاد ، والأمر بتقوى الله ، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه ، فعلى هذا كان مدار خطبه .

( وكان يقول في خطبه : أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا )

وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ، ولم [ ص: 182 ] يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ، ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم .

وثبت عنه أنه قال : ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء )

ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ، ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم ، لا طرحة ولا زيقا واسعا .

وكان منبره ثلاث درجات ، فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذن في الأذان فقط ولم يقل شيئا قبله ولا بعده ، فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته بشيء البتة لا مؤذن ولا غيره .

وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب . وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف ، وكثير من الجهلة [ ص: 183 ] يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين :

أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس .

الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف .

وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته ( وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين ، فقطع كلامه فنزل فحملهما ثم عاد إلى منبره ثم قال : صدق الله العظيم ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) [ الأنفال : 28 ] رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما )

( وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له : قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما ، ثم قال وهو على المنبر : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما )

[ ص: 184 ] وكان يقصر خطبته أحيانا ، ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس . وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة . وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ، ويحرضهن على الصدقة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية