الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا قال الرجل لامرأته : أنا طالق منك ، كان كناية يقع به الطلاق إن نواه ، ولا يقع إن لم ينوه ، وكذلك لو جعل إليها طلاق نفسها ، فقالت : أنت طالق مني كان كناية يقع بها الطلاق ، إن نوته ، ولا يقع إن لم تنوه ، وقال أبو حنيفة : لا يقع بهما الطلاق إلا إذا قال الزوج : أنا طالق منك ، ولا إذا قالت الزوجة : أنت طالق مني ، ولو قال الزوج : أنا بائن منك ، أو أنا حرام عليك ، قال أبو حنيفة : يقع به الطلاق إن نواه ، واستدل أبو حنيفة على ما خالفنا فيه بأن رجلا جعل أمر امرأته بيدها ، فطلقت زوجها ، فسأل عبد الله بن عباس عن ذلك ، فقال : خطأ الله نؤها ، هلا طلقت نفسها ، إنما الطلاق لك عليها ، وليس لها عليك . ولأنه لما اختص اسم الطلاق بالزوجة دون [ ص: 158 ] الزوج ، فقيل لها : إنها طالق ، ولم يقل للزوج : إنه طالق ، وجب أن يختص حكم الطلاق بالزوجة دون الزوج ، فتقع الفرقة بالطلاق عليها ولا تقع بالطلاق عليه ، لأن ثبوت الحكم يقتضي ثبوت الاسم ، وانتفاء الاسم يقتضي انتفاء الحكم كما أن انتفاء اسم الزوجية يوجب انتفاء حكمها وثبوت اسمها يوجب ثبوت حكمها ، قال : ولأن الزوج لو كان محلا لوقوع الطلاق عليه ، لكان صريح الطلاق فيه صريحا ، ولكان حكمه به متعلقا فلما انتفى عنه صريح الطلاق ، ولم تجب عليه العدة من الطلاق ، دل على أنه ليس بمحل للطلاق كالأجنبي ، ولأن قوله لزوجته : أنا طالق منك ، كقوله لعبده : أنا حر منك ، فلما لم يكن هذا عتقا ، لم يكن هذا طلاقا ، قال : ولأن الطلاق هو الإطلاق من الحبس ، والزوجة محبوسة عن الأزواج . فجاز أن يقع عليها الطلاق والزوج غير محبوس بها عن الزوجات ، لم يجز أن يقع عليه الطلاق .

                                                                                                                                            ودليلنا ما روي عن عبد الله بن مسعود ، سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن وقوع الطلاق على الزوج فقال عمر : كيف ترى أنت ، فقال : أرى أنها واحدة ، وزوجها أحق بها ، فقال عمر - رضي الله عنه - نعم ما رأيت ، فدل ذلك على إجماعهما على أن وقوع الطلاق على الزوج كناية فيه ، ولأنه أحد الزوجين ، فجاز أن تقع الفرقة ، بوقوع الطلاق عليه كالزوجة ، ولأن ما صلح أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوجة ، جاز أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوج ، كالتحريم والبينونة ، ولأن من صح إضافة كناية الطلاق إليه صح إضافة صريحه إليه ، كالزوجة طردا وكالأجنبية عكسا .

                                                                                                                                            والاستدلال من هذا الأصل هو : أن صريح الطلاق أقوى من كنايته ، فلما وقعت الفرقة بكناية الطلاق في الزوج كان وقوعها بصريحه به أولى .

                                                                                                                                            فأما استدلاله بحديث ابن عباس ، فقد خالف عمر وابن مسعود ، وقول الاثنين أقوى من قول الواحد . وأما استدلاله بانتفاء الاسم عن الزوج أوجب انتفاء حكمه فباطل بقوله : أنا بائن منك ، وحرام عليك ، على أن حكم الطلاق متعلق بكل واحد من الزوجين وإن اختص أحدهما بالاسم .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأنه لما لم يكن صريح الطلاق فيه صريحا ولا وجب عليه العدة لم يكن محلا له . فالجواب عنه أنه لما لم يكن في حقيقته صريحا . لأن الصريح ما اقترن به عرف الاستعمال عندهم وعرف القرآن عندنا ولم يتناول جهة الزوج عرف الاستعمال وعرف القرآن ، فكان صريحا ، وقد تناوله في جهة الزوجة عرف الاستعمال وعرف القرآن فكان صريحا .

                                                                                                                                            وأما العدة فهي الامتناع من الأزواج والزوجة ممنوعة من ذلك ، في حال الزوجية [ ص: 159 ] فمنعت منه بعد الزوجية والزوج غير ممنوع منه في حال الزوجية ، فلم يكن ممنوعا منه بعد الزوجية .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال بقوله لعبده : أنا حر منك ، فقد اختلف أصحابنا هل يكون كناية عن عتقه أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : يكون كناية في عتقه ، يعتق به إذا نواه ، فعلى هذا يسقط الاستدلال به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يكون كناية ، ولا يعتق به ، فعلى هذا الفرق بينهما ، أن العتق إنما هو إزالة الرق ، والرق يختص بالعبد دون السيد فلم يصح العتق إلا أن يتوجه اللفظ إلى العبد دون السيد ، وليس كذلك الطلاق ، لأنه رفع الزوجية التي قد اشترك فيها الزوجان ، فجاز أن تقع الفرقة بوقوعها على الزوجين . وأما استدلاله بأن الطلاق هو إطلاق من الحبس ، وهذا مختص بالزوجة دون الزوج ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الطلاق هو الإطلاق من عقد النكاح والعقد متعلق بهما فجاز أن يكون الطلاق واقعا عليها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه وإن كان إطلاقا من حبس ، فهو محبوس بها عن نكاح أختها ، وخالتها وعمتها وعن نكاح أربع سواها ، كما كانت محبوسة عن غيره فجاز أن يقع الطلاق عليه ، لينطلق من حبس هذا التحريم كما وقع عليها ، فانطلقت من حبس التحريم والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية