الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك ، وقالا : له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه ) قيل هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده . وعندهما يستحقه ; لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء ، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر وإلى إلقاء الطين ، ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر . وله أن القياس يأباه على ما ذكرناه ، وفي البئر عرفناه بالأثر ، والحاجة إلى الحريم فيه فوقها إليه في النهر ; لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم ، ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء ولا استقاء إلا بالحريم فتعذر الإلحاق .

ووجه البناء أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر ، والقول لصاحب اليد ، وبعدم استحقاقه تنعدم اليد ، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وإن كانت مسألة مبتدأة فلهما أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به ، ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه .

وله أنه أشبه بالأرض صورة ومعنى ، أما صورة فلاستوائهما ، ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة ، والظاهر شاهد لمن في يده ما هو أشبه به . [ ص: 78 ] كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما ، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه ، والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك ، ولا نزاع فيما به استمساك الماء إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس ، على أنه إن كان مستمسكا به ماء نهره فالآخر دافع به الماء عن أرضه ، والمانع من نقضه تعلق حق صاحب النهر لا ملكه . كالحائط لرجل ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه وإن كان ملكه ( وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها ، وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفة ) . وقالا : هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك . وقوله وليست المسناة في يد أحدهما معناه : ليس لأحدهما عليه غرس ولا طين ملقى فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف ، أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك فصاحب الشغل أولى ، لأنه صاحب يد . ولو كان عليه غرس لا يدرى من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا .

وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده وعندهما لصاحب النهر . وأما إلقاء الطين فقد قيل إنه على الخلاف ، وقيل إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش . وأما المرور فقد قيل يمنع صاحب النهر عنده ، وقيل لا يمنع للضرورة . قال الفقيه أبو جعفر : آخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين . ثم عن أبي يوسف أن حريمه مقدار نصف النهر من كل جانب ، وعن محمد مقدار بطن النهر من كل جانب . وهذا أرفق بالناس .

التالي السابق


( قوله وله أنه أشبه بالأرض صورة ومعنى ، أما صورة فلاستوائهما ، ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة ) قال صاحب العناية : وقوله لاستوائهما يشير إلى أن الخلاف فيما إذا لم تكن المسناة مرتفعة عن الأرض ، فأما إذا كانت المسناة أرفع من الأرض فهي لصاحب النهر ; لأن الظاهر أن ارتفاعه لإلقاء طينه انتهى .

وتبعه [ ص: 78 ] العيني . أقول : ليس هذا بشرح سديد ، لأن الإشارة إلى ما ذكره إنما يتصور أن لو كان المراد باستوائهما في قوله صورة لاستوائهما استواءهما في الارتفاع والانخفاض : أي الاستواء المكاني . ولا يذهب على ذي مسكة أن المراد بذلك إنما هو الاستواء في الحقيقة الأرضية . كيف لا والاستواء بالمعنى الأول قد يتحقق بين النهر والحريم أيضا كما لا يخفى عليك ، فلو كان المراد ذلك لاختل التعليل المذكور تبصر .

( قوله وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده وعندهما لصاحب النهر ) قال بعض الفضلاء : فيه بحث . إذ لا يظهر كون ما ذكره ثمرة لما تقدمه ، بل لا يبعد أن يدعي العكس انتهى . أقول : لا وجه لكلامه هذا أصلا فإنه لما لم يكن لصاحب النهر حريم عنده بل كان طرفا النهر لصاحب الأرض ، وكان لصاحب النهر حريم عندهما ظهر منه أن ولاية الغرس في مقدار ذلك الحريم لصاحب الأرض عنده ولصاحب النهر عندهما ، إذ لا شك أن ولاية الغرس في موضع لمن يستحق ذلك الموضع ، وهذا مما لا سترة به ، فكيف خفي على مثل ذلك القائل .




الخدمات العلمية