الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ مسألة ] [ ورود صيغة الأمر بعد الحظر هل تفيد الوجوب ؟ ] إذا قلنا بالصحيح من اقتضاء صيغة الأمر الوجوب فلو وردت صيغة بعد الحظر كالأمر بحلق الرأس بعد تحريمه عليه بالإحرام ، والأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف بعد تحريم حمله فيها ، فهل يفيد الوجوب أم لا ؟ فيه مذاهب . أحدها : أنه على حالها في اقتضاء الوجوب ، كما لو وردت ابتداء ، وصححه القاضي أبو الطيب الطبري في شرح الكفاية " والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني في القواطع " ونقله المازري عن أبي حامد الإسفراييني [ ص: 303 ] وهو كما قال ، فإنه نصره في " كتابه " ونقله عن أكثر أصحابنا ، ثم قال : وهو قول كافة الفقهاء والمتكلمين . وقال الأستاذ أبو منصور : هو قول أهل التحصيل منا ، وقال سليم الرازي في التقريب " : إنه قول أكثر أصحابنا ونصره ، وقال ابن برهان في الأوسط " إليه ذهب معظم العلماء ونقله في الوجيز " عن القاضي ، والذي قاله القاضي كما حكاه عنه إمام الحرمين : لو كنت من القائلين بالصيغة لقطعت بأن الصيغة المطلقة بعد الحظر مجراة على الوجوب ، وصرح المازري عن القاضي ، بالوقف هنا كما هناك ، وحكى عن القاضي أنه لا يقوى تأكيد الوجوب فيه عند القائلين به كتأكيد الأمر المجرد عن تقدم حظر حتى إن هذا يترك عن ظاهره بدلائل لا تبلغ في القوة مبلغ الأدلة التي يترك لأجلها ظاهر المجرد عن ذلك .

                                                      قال المازري : وهذا عين ما اخترته في الأمر المجرد كما سبق . وحكاه أبو الحسين وصاحب الواضح " عن المعتزلة ، وحكاه صاحب المصادر " عن الشيعة ، وقال القاضي عبد الوهاب : إنه الأقوى في النظر ، وقال في الإفادة " : ذهب إليه المتكلمون أو أكثرهم . والثاني : أنه على الإباحة ونقله ابن برهان في الوجيز " عن أكثر الفقهاء المتكلمين وبه جزم القفال الشاشي " في كتابه " والخفاف في كتاب " الخصال " بأنه شرط للأمر أن لا يتقدمه حظر ، وقال صاحب القواطع " : إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن " وكذا حكاه عن الشافعي أبو الحسين بن القطان في كتابه ، وقال القاضي صار إليه الشافعي في أظهر أجوبته ، وممن نقله عن الشافعي الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه " في باب الكتابة ، وقال في كتابه في أصول الفقه :

                                                      [ ص: 304 ] قال الشافعي في أحكام القرآن : وأوامر الله تعالى ورسوله تحتمل معاني منها الإباحة ، كالأوامر الواردة بعد الحظر كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } قال : فنص على أن الأمر الوارد بعد الحظر يقتضي الإباحة دون الإيجاب ، وإليه ذهب جماعة من أصحابنا " . انتهى .

                                                      وقال الشيخ أبو إسحاق : للشافعي كلام يدل عليه ، وقال القاضي أبو الطيب : هو ظاهر مذهب الشافعي وإليه ذهب أكثر من تكلم في أصول الفقه ، وقال سليم الرازي : نص عليه الشافعي ، وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة " : إنه الذي صار إليه الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأطلقوا على أن ذلك قول الشافعي ، وأنه نص عليه في كثير من كلامه لا يجوز أن يدعي معه أنه مذهبه خلافه ، لكن قال إلكيا الهراسي : الشافعي يجعل تقدم الحظر من مولدات التأويل ، وهذا منه اعتراف بأن تقديم الحظر يوهن الظهور ، ولكن لا يسقط أصل الظهور كانطباق العموم على سبب . انتهى . وقال القاضي عبد الوهاب والباجي وابن خويز منداد : إنه قول مالك ، ولذلك احتج على عدم وجوب الكتابة بقوله : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فقال : هو توسعة لقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } . والثالث : إن كان الحظر السابق عارضا لعلة وسبب وعلقت صيغة " افعل " بزوالها ، كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } وكقوله : { كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا } فإن الحظر السابق إنما يثبت [ ص: 305 ] لسبب . فهذا وأمثاله إذا وردت صيغة " افعل " معلقة برفعه دل في عرف الاستعمال على أنه لدفع الذم فقط .

                                                      ويغلب عرف الاستعمال على الوضع ، وأما إن كان الحظر السابق قد عرض لا لعلة ، ولا أن صيغة " افعل " علقت بزوال ذلك ، كالجلد المأمور به عقيب الزنا بعد النهي عن الإيلام ، فتبقى صيغة " افعل " على ما دلت عليه قبل ذلك . فمن قال : إنها للوجوب قبل ذلك فهي للوجوب بحالها ، ومن قال : إنها موقوفة قال : هي أيضا مترددة بين الوجوب والندب ، ويريد هنا أيضا احتمال الإباحة ، ولا تنقص الإباحة بسببها ; لأنه لا يمكن هنا دعوى عرف أو استعمال حتى يقال بأنه يغلب العرف الوضع في هذه الصورة بخلاف الأولى بل يبقى التردد لا غير ، واختاره الغزالي وإلكيا الهراسي وقال : أما إذا أطلق غير معلل بعارض ثم تعقبه لفظ الأمر المطلق فهو محل التردد ، والظاهر أنه لا تعلق لما تقدم من الحظر بالكلام ، فإن انتفى التعلق لم يؤثر قطعا ويحتمل ، وأما إذا لم ترد صيغة " افعل " كقولك : قال : " إذا حللتم فأنتم مأمورون بالاصطياد " فهذا يحتمل الوجوب والندب والإباحة .

                                                      والرابع : الوقف بين الإباحة والوجوب وحكاه سليم الرازي عن المتكلمين واختاره إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر ، وقال الغزالي في المنخول " : إنه المختار ، وقال [ ص: 306 ] ابن القشيري : إنه الرأي الحق . والخامس : أنه للاستحباب ، وبه جزم القاضي الحسين في باب الكتابة من تعليقه " . والسادس : أنها ترفع الحظر السابق وتعيد حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر ، فإن كان مباحا كانت للإباحة ، كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } أو واجبا فواجب ، كقوله : { فأتوهن من حيث أمركم الله } إذا قلنا بوجوب الوطء ، وهذا ما اختاره بعض المحققين من الحنابلة ونسبه للمزني . قال : وعليه يخرج قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } فإن الصيغة رفعت الحظر وأعادته إلى ما كان أولا ، وهذا هو المختار عندي . قلت : وهو ظاهر اختيار القفال الشاشي ، فإنه قال : كل ما حرم لحدوث معنى فيه ، وكان قبيل حظره غير واجب فعله فإذا وقع الأمر به بعد الحظر فالظاهر منه الإباحة ، ورد الشيء إلى الحالة الأولى . ألا ترى أن وطء الرجل زوجته لم يكن فرضا عليه ثم حرم بحدوث الحيض ؟ فلما قيل : { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } لم يكن ذلك إيجابا بل إباحة كأنه قال : فإذا تطهرن فهي على الحالة الأولى ، وكذا قوله : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } أي : فقد أبحت لكم الآن ما حظرته عليكم .

                                                      [ ص: 307 ] قال ابن دقيق العيد : ونكتة المسألة أن تقدم الحظر على الأمر هل هو قرينة توجب خروجه عن مقتضاه عند الإطلاق أم لا ؟ فالقائلون بالمذهب الأول لا يرونه قرينة موجبة للخروج عن ذلك ، والقائلون بالإباحة يرون تقدم الحظر قرينة خارجة للأمر المطلق عن مقتضاه ، وهم مطالبون بدليل على ذلك ، ولا مستند لهم إلا دعوى الفرق في صرف اللفظ المطلق عن مقتضاه أو دعوى أكثرية الاستعمال في ذلك ، وطريقهم في ذلك إيراد النظائر ، كقوله : { وإذا حللتم } { فإذا قضيت الصلاة } ، وإلا فلا إشكال في إمكان الانتقال من بعض الأحكام إلى بعض كيف كانت . قال : ومن هذا تبين لك أن ما قاله بعض الفضلاء في هذه ، وهو ممن اختار أن الأمر للوجوب أن المقتضي للوجوب قائم والوجود لا يصلح معارضا ، وقرر كون الموجود لا يصلح معارضا بأنه لا يجوز الانتقال من الحظر إلى الوجوب ليس بقوي ; لأن الإمكان جائز من غير شك ، وإنما المخالف يدعي أن الاستعمال والعرف دالان على صرف الأمر على ظاهره في هذا المحل ، وهذا لا ينافيه جواز الانتقال ، وإنما الطريق منازعة الخصم في ذلك وإلزامه للحجة على ما قال ، وأما الناظر في نفسه فيحتاج إلى اعتبار الإطلاقات وأمر العرف فإن صح عنده ما ادعاه المخالف قال به ، وإلا فلا . تنبيهات الأول جعل صاحب الواضح " المعتزلي ، وصاحب المصادر " الشيعي الخلاف فيما إذا كان الحظر السابق شرعيا ، قالا : فإن كان عقليا فلا خلاف [ ص: 308 ] أنه لا يتعين مدلوله عما كان لوروده ابتداء وصرح أبو الحسين بن القطان في " كتابه " بأنه لا فرق في الحظر بين العقلي والشرعي ، والأول أظهر . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : للمسألة حالتان . إحداهما : أن يكون الفعل مباحا في أصله إما بحكم العقل على القول بأن الأصل في مجوزات العقول مباح ، أو بتوقف من الشرع على ذلك ثم يرد حظر معلق بغاية أو شرط أو علة ، فإذا ورد " افعل " بعد زوال ما علق الحظر به فإنه يفيد الإباحة ويرفع الحظر عند جمهور العلماء .

                                                      والثانية : أن يرد حظر مبتدأ غير معلل بعلة عارضة ، ولا معلق بشرط ، ولا غاية ثم يرد بعده صيغة الأمر فهذا موضع الخلاف ، ومثله بالكتابة . قال : ويجوز رجوعها إلى الأول ; لأن منع الكتابة إنما كان لدخولها في الغرر ، وحظر الغرر مبتدأ .

                                                      الثاني : ليس المراد بالحظر في هذه المسألة أن يكون محرما فقط بل المراد ذلك ، أو أنه كان من حقه التحريم فإن الشافعي رضي الله عنه مثلها بقوله تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } وجواز الكتابة على خلاف القياس ، ومثل ذلك الإجارة والمساقاة . الثالث : قال المازري : ترجمة المسألة بالأمر الوارد بعد الحظر للإباحة غير سديد ; لأنه كالمتناقض ; إذ المباح غير مأمور به ، وهذه العبارة تقتضي كونه مأمورا به ، والصواب : أن يقول : " افعل " إذا ورد بعد الحظر . وقال عبد الجليل الربعي في شرح اللامع " : هذه العبارة رغب عنها القاضي ، وقال : الأولى فيها أن يقال : " افعل " بعد الحظر ; لأن " افعل " يكون أمرا تارة وغير أمر ، والمباح لا يكون مأمورا به ، وإنما هو مأذون فيه .

                                                      [ ص: 309 ] الرابع : احتج القائلون بالإباحة بأن تقدم الحظر قرينة صرفت للأمر عن الوجوب . وعارض ابن عقيل الحنبلي ، فقال : إذا راعيتم الحظر المتقدم وجعلتموه قرينة صارفة له عن مقتضاه ، فكان من حقكم أنه يكون تهديدا ووعيدا ويكون قرينة الحظر صارفة له إلى التهديد حتى تكون القرينة مبينة لحكم من جنسها ، ثم يلزمهم النهي إذا ورد بعد الأمر أن يكون الوجوب المتقدم قرينة تصرفه عن ظاهره إلى الكراهة . وأجيب عن الأول : بأنه إنما لم يحمل على التهديد لئلا يبطل مقصود الأمر فحمل على الإباحة مراعاة له ، وصرف عن الوجوب مراعاة للقرينة . وللمعترض أن يقول ما راعى الأمر فلا بد من جواب صحيح . الخامس : قيل : يحتاج إلى الجمع بين هذه المسألة وبين قول الفقهاء : ما كان ممنوعا منه لو لم يجب فإذا جاز وجب كالختان وقطع اليد في السرقة ، وقضية هذا الجزم بأنه للوجوب . قلنا : القاعدة الفقهية مفروضة في شيء كان ممنوعا على تقدير عدم الوجوب ، والأصولية فيما هو ممنوع منه لا على هذه الصورة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية