الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم ويدعوا عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون ، وتستغفرون فلا يغفر لكم .

وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء ، فقال : الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه .

وقال مالك بن دينار كان حبر من أحبار بني إسرائيل ، يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل فرأى بعض بنيه يوما وقد غمز بعض النساء ، فقال : مهلا يا بني مهلا وسقط من سريره فانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش ، فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه أن أخبر فلانا الخبر، أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدا أما كان من غضبك لي إلا أن قلت : مهلا يا بني مهلا .

وقال حذيفة يأتي على الناس زمان لأن تكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم .

وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم ، وستين ألفا من شرارهم . فقال : يا رب ، هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار ؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي ، وواكلوهم وشاربوهم .

وقال بلال بن سعد إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ، فإذا أعلنت ولم تغير، أضرت بالعامة . وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني كيف منزلتك من قومك ؟ قال : حسنة . قال كعب : إن التوراة لتقول غير ذلك قال: وما تقول؟ قال: تقول : إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال : صدقت التوراة وكذب أبو مسلم .

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال ثم قعد عنهم فقيل له : لو أتيتهم ، فلعلهم يجدون في أنفسهم فقال : أرهب إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي ، وإن سكت رهبت أن آثم وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ويستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فإذا لم يعرف القلب المعروف ، ولم ينكر المنكر نكس ، فجعل أعلاه أسفله .

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهى عنه ، وتعلق به عند فساد الأمور ، وتنكرها وتشوش الزمان فهو ممن قد قام لله في زمانه بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام بها وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه . .

وقيل للفضيل ألا تأمر وتنهى ؟ فقال : إن قوما أمروا ونهوا فكفروا ، وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا .

وقيل للثوري ألا تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ؟ فقال : إذا انبثق البحر فمن يقدر أن يسكره ؟ فقد ظهر بهذه الأدلة أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به ، فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه .

التالي السابق


(وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغفرون فلا يغفر لكم) .

وقد أخرجه عبد بن حميد من حديث معاذ مرفوعا في حديث طويل، فيه: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم .

(وسئل حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه (عن ميت الأحياء، فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق خلاد بن عبد الرحمن أن أبا الطفيل حدثه أنه سمع حذيفة يقول: يا أيها الناس، ألا تسألوني عن ميت الأحياء؟ ثم ساق الحديث، وفيه: فمن الناس منكر بقلبه ويده ولسانه، والحق استكمل، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده، وشعبة من الحق ترك، ومنهم من ينكر بقلبه كافا يده ولسانه، وشعبتين من الحق ترك، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا لسانه، فذلك ميت الأحياء .

(وقال) أبو يحيى مالك بن دينار البصري رحمه الله تعالى فيما رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني علي بن مسلم حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت مالكا يقول (كان حبر من أحبار بني إسرائيل، يغشى النساء [ ص: 13 ] والرجال منزله، فيعظهم، ويذكرهم بأيام الله عز وجل) قال: (فرأى بعض بنيه يوما وقد غمز بعض النساء، فقال: مهلا يا بني مهلا) يا بني (قال: فسقط عن سريره، وانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه) ، ولفظ الحلية: إلى نبيهم (أن أخبر فلانا الخبر، أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدا ما كان من غضبك لي إلا أن قلت: مهلا يا بني مهلا)يا بني .

(وقال حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه (يأتي على الناس زمان لأن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم) .

والذي في الحلية لأبي نعيم من طريق أبي البحتري عن أبي عمر -يعني زاذان- قال: قال حذيفة: ليأتين عليكم زمان خيركم فيه من لم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر .

(وأوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون) أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو المراد من قوله تعالى: وإذ قال موسى لفتاه ، (إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم. فقال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وواكلوهم وشاربوهم) .

رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن إبراهيم بن عمرو الصغاني، كما ذكره العراقي ، وسبقت الإشارة إليه قريبا، (وقال بلال بن سعد) بن تميم الأشعري أبو عمر الدمشقي، ثقة عابد، تقدمت ترجمته (إن المعصية إذا أخفيت عن الناس لم تضر إلا صاحبها، فإذا أعلنت) أي: أظهرت لهم (فلم تغير، أضرت بالعامة. وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني) الزاهد الشامي، اسمه عبد الله بن ثوب، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يدركه، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، (كيف منزلتك من قومك؟ قال: حسنة. قال كعب: إن التوراة) أي: الكتاب الذي أنزل على سيدنا موسى عليه السلام (لتقول: إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه. قال: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم) يعني نفسه .

وأخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى ابن لهيعة ، حدثنا ابن هبيرة أن كعبا كان يقول: إن حكيم هذه الأمة أبو مسلم الخولاني.

(وكان عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (يأتي العمال) أي: يدخل على ولاة الأمر (ثم قعد عنهم) أي: ترك الدخول عليهم (فقيل له: لو أتيتهم، فلعلهم يجدون في أنفسهم) أي: لعلهم يجدون تأثيرا لكلامك في أنفسهم، (قال: أرهب) أي: أخاف (إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي، وإن سكت رهبت) أي: خفت (أن آثم) أي: أقع في الإثم (وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف) والنهي عن المنكر، (فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ليستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه) أي: بمحضر منه .

(وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فإذا لم يعرف القلب المعروف، ولم ينكر المنكر نكس، فجعل أعلاه أسفله) ، والقلب المنكوس لا خير فيه .

(وقال) أبو محمد (سهل بن عبد الله) التستري رحمه الله تعالى: (أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهي عنه، وتعلق به عند فساد الأمور، وتنكرها وتشوش الزمان) أي: اضطرابه، (فهو ممن قام لله تعالى في زمانه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) أي: تعلقه بدينه والتثبت عليه مما يقوم مقام القيام بالأمر بالمعروف (معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام به وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه .

وقيل للفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى (ألا تأمر وتنهى؟ فقال: إن قوما أمروا ونهوا فكفروا، [ ص: 14 ] وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا) ، فأداهم ذلك إلى الوقوع في الكفر .

(وقيل للثوري) سفيان رحمه الله تعالى: (ألا تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فقال: إذا انبثق) وفي نسخة: انفتق (البحر) أي: هاج واشتد هيجانه، (فمن يقدر أن يسكنه؟ فقد ظهر بهذه الأدلة) من الكتاب والسنة والأثر، (أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب) على المسلمين، (وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به، فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه) .

ير من الصفات التي يصح أن يوصف الحق بها، فكل مقام منها عن درجة، وهي أعلى من التي فارقها .




الخدمات العلمية