الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن رمى صيدا فأصابه ولم يثخنه ولم يخرجه عن حيز الامتناع فرماه آخر فقتله فهو للثاني ويؤكل ) ; لأنه هو الآخذ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام { الصيد لمن أخذ } ( وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للأول ولم يؤكل ) [ ص: 133 ] لاحتمال الموت بالثاني ، وهو ليس بذكاة للقدرة على ذكاة الاختيار ، بخلاف الوجه الأول ، وهذا إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد ; لأنه حينئذ يكون الموت مضافا إلى الرمي الثاني

وأما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح ، كما إذا أبان رأسه يحل ; لأن الموت لا يضاف إلى الرمي الثاني ; لأن وجوده وعدمه بمنزلة ، وإن كان الرمي الأول بحال لا يعيش منه الصيد إلا أنه بقي فيه من الحياة أكثر مما يكون بعد الذبح بأن كان يعيش يوما أو دونه ; فعلى قول أبي يوسف لا يحرم بالرمي الثاني ; لأن هذا القدر من الحياة لا عبرة بها عنده

وعند محمد يحرم ; لأن هذا القدر من الحياة معتبر عنده على ما عرف من مذهبه

فصار الجواب فيه والجواب فيما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد سواء فلا يحل

قال ( والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته ) ; لأنه بالرمي أتلف صيدا مملوكا له ; لأنه ملكه بالرمي المثخن وهو منقوص بجراحته ، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف

قال رضي الله عنه : تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني بأن كان الأول بحال يجوز أن يسلم الصيد منه والثاني بحال لا يسلم الصيد منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كاملا ، كما إذا قتل عبدا مريضا [ ص: 134 ] وإن علم أن الموت يحصل من الجراحتين أو لا يدري

قال في الزيادات : يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمنه نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمة لحمه

أما الأول فلأنه جرح حيوانا مملوكا للغير وقد نقصه فيضمن ما نقصه أولا

وأما الثاني فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين ; لأن الأولى ما كانت بصنعه ، والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانيا

وأما الثالث فلأن بالرمي الأول صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني ، فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه ، ولا يضمن النصف الآخر ; لأنه ضمنه مرة فدخل ضمان اللحم فيه ، وإن كان رماه الأول ثانيا فالجواب في حكم الإباحة كالجواب فيما إذا كان الرامي غيره ، ويصير كما إذا رمى صيدا على قمة جبل فأثخنه ثم رماه ثانيا فأنزله لا يحل ; لأن الثاني محرم ، كذا هذا .

التالي السابق


( قوله قال رضي الله عنه : تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني بأن كان الأول بحال يجوز أن يسلم الصيد منه إلخ ) أقول : لقائل أن يقول : تأويل المسألة ها هنا بما ذكره بعد أن أولها مرة فيما قبل بقوله : وهذا إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد يرى مستدركا ; لأن مجموع التأويلين متعلق بمسألة واحدة مذكورة في مختصر القدوري وهي قوله : وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله لم يؤكل ، والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته انتهى

فلما أول المصنف قوله لم يؤكل بما إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد تعين أن يكون أيضا قوله : والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته فيما إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد ; لأن قوله : والثاني ضامن لقيمته للأول فرع قوله لم يؤكل ، فما هو شرط في الأصل شرط في الفرع أيضا

وإذا علم أن الرمي الأول كان بحال ينجو منه الصيد علم أن القتل حصل بالرمي الثاني فلا حاجة إلى التأويل الثاني

ثم أقول في الجواب : إن كون الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد إنما يقتضي أن لا يحصل القتل بالرمي الأول فقط ، ولا يقتضي أن يحصل القتل بالرمي الثاني وحده لجواز أن يحصل من اجتماع الرميين ; إذ قد يكون في حالة الاجتماع [ ص: 134 ] ما لا يكون في حالة الانفراد ، ومراد المصنف بالتأويل الثاني التقييد بما علم كون القتل حاصلا بالرمي الثاني وحده ، والمقصود منه الاحتراز عما ذكره بقوله : وإن علم أن الموت حصل من الجراحتين أو لا يدري ، ولا يفيد التأويل الأول هذا التقييد ; لأن القيد الذي ذكره أولا أعم تحققا من القيد الذي ذكره ثانيا لتناوله صورة أن يحصل القتل من مجموع الرميين كما يتناول صورة أن يحصل بالرمي الثاني وحده ، وإنما المقصود من التأويل الأول الاحتراز عما إذا كان الرمي الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح ، وعما إذا كان الرمي الأول بحال لا يعيش منه الصيد إلا أنه يبقى فيه من الحياة أكثر مما يكون بعد الذبح كما فصله من قبل ، فلا استدراك أصلا بل أصاب كل من التأويلين مجراه




الخدمات العلمية