الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن شر النفاثات في العقد أي: ومن شر النفوس السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر إنما هو من جهة النفوس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه منها. وقدر بعضهم النساء موصوفا، والأول أولى ليشمل الرجال ويتضمن الإشارة السابقة ويطابق سبب النزول، فإن الذي سحره صلى الله تعالى عليه وسلم كان رجلا على المشهور كما ستسمع إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أعانه بعض النساء ولكون مثل ذلك من عمل النساء وكيدهن غلب المؤنث على المذكر هنا، وهو جائز على ما فصله الخفاجي في شرح درة الغواص. والنفث النفخ مع ريق كما قال الزمخشري. وقال صاحب اللوامح: هو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه، فإن كان يريق فهو تفل، والأول هو الأصح؛ لما نقله ابن القيم من أنهم إذا سحروا، واستعانوا على تأثير فعلهم بنفس يمازجه بعض أجزاء أنفسهم الخبيثة. وقرأ الحسن: «النفاثات» بضم النون، وقرأ هو أيضا وابن عمر وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية: «النافثات» وأبو الربيع والحسن أيضا «النفثات» بغير ألف كالحذرات، وتعريفها إما للعهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن، وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا ثم قال: «أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال في بئر ذي أروان».

                                                                                                                                                                                                                                      قالت: فأتاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال: «يا عائشة، والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين». قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: «لا، أما أنا فقد عافاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شرا. فأمرت بها فدفنت».


                                                                                                                                                                                                                                      وهذان الملكان على ما يدل عليه رواية ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، ومن حديثهما في الدلائل للبيهقي بعد ذكر حديث الملكين فما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غدا ومعه أصحابه إلى البئر فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوفة فإذا فيها مشط رسول الله [ ص: 283 ] صلى الله تعالى عليه وسلم ومن مشاطة رأسه، وإذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإذا فيها إبر مغروزة وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوذتين فقال: يا محمد، قل أعوذ برب الفلق وحل عقدة من شر ما خلق وحل عقدة، حتى فرغ منهما، وحل العقد كلها وجعل لا ينزع إلا وجد لها ألما، ثم يجد بعد ذلك راحة، فقيل: يا رسول الله، لو قتلت اليهودي؟ قال: «قد عافاني الله تعالى وما يراه من عذاب الله تعالى أشد».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية: إن الذي تولى السحر لبيد بن الأعصم وبناته، فمرض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين، وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره، فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه والزبير وعمارا فنزحوا ماء البئر وهو كنقاعة الحناء، ثم رفعوا راعوثة البئر فأخرجوا أسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاءوا بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد عليه الصلاة والسلام خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال صلى الله تعالى عليه وسلم كأنما أنشط من عقال...
                                                                                                                                                                                                                                      الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      والرواية الأولى أصح من هذه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام المازري: قد أنكر ذلك الحديث المبتدعة من حيث إنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، وإن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وأجيب بأن الحديث صحيح، وهو غير مراغم للنص ولا يلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها؛ لأن الكفار أرادوا بقولهم: مسحور أنه مجنون وحاشاه، ولو سلم إرادة ظاهره فهو كان قبل هذه القصة أو مرادهم أن السحر أثر فيه وأن ما يأتيه من الوحي من تخيلات السحر وهو كذب أيضا؛ لأن الله تعالى عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها وهي مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له، وقد قيل: إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة، وقيل: إنه يخيل أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته عليه الصلاة والسلام على السداد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي عياض: قد جاءت روايات حديث عائشة مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وظواهر جوارحه لا على عقله عليه الصلاة والسلام وقلبه واعتقاده، ويكون معنى ما في بعض الروايات حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وفي بعض أنه يخيل إليه أنه... إلخ: أنه يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور، وكل ما جاء في الروايات من أنه عليه الصلاة والسلام يخيل إليه فعل شيء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الضلالة انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعضهم أنكر أصل السحر ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، ومذهب أهل السنة وعلماء الأمة على إثباته وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام مخصوصة. والمزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد [ ص: 284 ] إلى التفرقة، ومع ذلك لا يخلو من تأثير نفساني، ثم إن القائلين به اختلفوا في القدر الذي يقع به فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه؛ لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلا له، فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة إلا بأعلى أحوال المذكور، ومذهب الأشاعرة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك وهو الصحيح عقلا لأنه لا فاعل إلا الله، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض، ولورود الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه، ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول، وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا، والفرق بين الساحر وبين النبي والولي على قول الأشاعرة بأنه يجوز خرق العادة على يد الساحر مبين في الكتب الكلامية وغيرها من شروح الصحاح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل في الآية: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل. مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وهو يقرب من بدع التفاسير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية