الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
887 - ( 14 ) - حديث " { أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم في حجة الوداع }. البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث ابن عباس ، دون قوله : في حجة الوداع فإنا لم نرها صريحة في شيء من الأحاديث ، لكن لفظ البخاري : { احتجم وهو صائم ، واحتجم وهو محرم }. وله طرق عند النسائي غير هذه وهاها وأعلها ، واستشكل كونه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصيام والإحرام ; لأنه لم يكن شأنه التطوع بالصيام في السفر ، ولم يكن محرما إلا وهو مسافر ، ولم يسافر في رمضان إلى جهة الإحرام إلا في غزاة الفتح ، ولم يكن حينئذ محرما ، قلت : وفي الجملة الأولى نظر ، فما المانع من ذلك ، فلعله فعل مرة لبيان الجواز ، وبمثل هذا لا ترد الأخبار الصحيحة ، ثم ظهر لي أن بعض الرواة جمع بين الأمرين في الذكر ، فأوهم أنهما وقعا معا ، والأصوب رواية البخاري : احتجم وهو صائم ، واحتجم وهو محرم . فيحمل على أن كل واحد [ ص: 367 ] منهما وقع في حالة مستقلة ، وهذا لا مانع ، منه فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم صام في رمضان وهو مسافر . وهو في الصحيحين بلفظ : وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .

ويقوي ذلك : أن غالب الأحاديث ورد مفصلا . قال بعض الحفاظ : حديث ابن عباس روي على أربعة أوجه : الأول احتجم وهو محرم ، الثاني : احتجم وهو صائم ، الثالث : احتجم وهو صائم ، واحتجم وهو محرم ، الرابع : احتجم وهو صائم محرم ، فالأول روي من طرق شتى عن ابن عباس ، واتفقا عليه من حديث عبد الله ابن بحينة ، وفي النسائي وغيره من حديث أنس وجابر ، والثاني رواه أصحاب السنن من طريق الحكم ، عن مقسم عنه ، لكن أعل بأنه ليس من مسموع الحكم ، عن مقسم . وقد رواه ابن سعد من طريق الحجاج ، عن مقسم ، وزاد في آخره : فلذلك كرهت الحجامة للصائم والحجاج ضعيف ، ورواه البزار من طريق داود بن علي عن أبيه ، عن ابن عباس ، وزاد في آخره : فغشي عليه . والثالث : رواه البخاري ، والظاهر أن الراوي جمع بين الحديثين كما قدمناه ، والرابع رواه النسائي وغيره من طريق ميمون بن مهران عنه ، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما ، قال مهنا : سألت أحمد عنه ، فقال : ليس فيه صائم إنما هو محرم .

قلت : من ذكره ؟ قال ابن عيينة ، عن عمرو ، عن [ ص: 368 ] عطاء ، وطاوس ، وروح عن زكريا ، عن عمرو ، عن طاوس وعبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، قال أحمد : فهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياما ، وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن حديث رواه شريك ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس : أن { النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم }. فقال : هذا خطأ أخطأ فيه شريك ، إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجره كذلك رواه جماعة عن عاصم ، وحدث به شريك من حفظه ، وكان ساء حفظه فغلط فيه : وروى قاسم بن أصبغ من طريق الحميدي ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس مثله ، ثم قال : قال الحميدي : هذا ريح لأنه لم يكن صائما محرما لأنه خرج في رمضان في غزاة الفتح ، ولم يكن محرما .

( تنبيه ) :

تقدم أن الذي زاده الرافعي في قوله في حجة الوداع : لم أره صريحا في طرق هذا الحديث ، لكن ذكره الشافعي وابن عبد البر وغير واحد وفيه نظر ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان مفطرا ، كما صح أن أم الفضل أرسلت إليه بقدح لبن فشربه وهو واقف بعرفة .

وعلى تقدير وقوع ذلك فقد قال ابن خزيمة : هذا الخبر لا يدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم ; لأنه إنما احتجم وهو صائم محرم في سفر لا في حضر ; لأنه لم يكن محرما مقيما ببلد ، قال : وللمسافر أن يفطر ولو نوى الصوم ومضى عليه بعض النهار ، خلافا لمن أبى ذلك ، ثم احتج لذلك ، لكن تعقب عليه الخطابي بأن قوله : وهو صائم ، دال على بقاء الصوم ، قلت : ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان حالة الاحتجام ; لأنه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام ، والله أعلم . ذكر الإشارة إلى طرق حديث أفطر الحاجم والمحجوم باختصار

فيه عن ثوبان ، وشداد بن أوس ، ورافع بن خديج ، وأبي موسى ، ومعقل بن يسار ، وأسامة بن زيد ، وبلال ، وعلي ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجابر ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي يزيد الأنصاري ، وابن مسعود . [ ص: 369 ] وأما حديث ثوبان وشداد : فأخرجه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه والحاكم وابن حبان من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، قال علي بن سعيد النسوي : سمعت أحمد يقول : هو أصح ما روي فيه .

وكذا قال الترمذي ، عن البخاري ، ورواه المذكورون من طريق يحيى بن أبي كثير أيضا عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن شداد بن أوس وصحح البخاري الطريقين تبعا لعلي بن المديني ، نقله الترمذي في العلل ، وقد استوعب النسائي طرق هذا الحديث في السنن الكبرى . وأما حديث رافع بن خديج : فرواه الترمذي من طريق معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن قارظ ، عن السائب بن يزيد ، عن رافع قال الترمذي : ذكر عن أحمد أنه قال : هو أصح شيء في هذا الباب ، وصححه ابن حبان والحاكم ، رواه الحاكم من طريق معاوية بن سلام أيضا عن يحيى ، لكن قال البخاري : هو غير محفوظ نقله الترمذي قال : وقلت لإسحاق بن منصور : ما علته ؟ قال : روى هشام الدستوائي ، عن يحيى ، عن إبراهيم بن قارظ ، عن السائب ، عن رافع حديث : { كسب الحجام خبيث }.

وبذلك جزم أبو حاتم وبالغ فقال : هو عندي من طريق رافع باطل ، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال : هو أضعف أحاديث الباب . [ ص: 370 ] وأما حديث أبي موسى : فرواه النسائي والحاكم ، وصححه علي بن المديني ، وقال النسائي : رفعه خطأ ، والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة ، وعلقه البخاري ، ووصله الحاكم أيضا بدون ذكر : أفطر الحاجم والمحجوم . وأما حديث معقل بن يسار أو ابن سنان : فرواه النسائي وذكر الاختلاف فيه ، وكذا حديث بلال ، وحديث علي ، وقال علي بن المديني . اختلف فيه على الحسن ، فقال عطاء بن السائب عنه ، عن معقل بن سنان وقيل : ابن يسار ، وقال أشعث عنه ، عن أسامة ، وقال يونس نحوه ، وقال بعضهم : عنه ، عن علي ، وبعضهم عنه ، عن أبي هريرة ، وهو أبو حرة . وأما حديث عائشة : فرواه النسائي أيضا ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف . وأما حديث أبي هريرة : فرواه النسائي وابن ماجه من طريق عبد الله بن بشير [ ص: 371 ] عن الأعمش ، عن أبي صالح عنه ، قال : ووقفه إبراهيم بن طهمان ، عن الأعمش ، وله طريق عن شقيق بن ثور ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وكلها عند النسائي ، وباقيها في الكامل والبزار وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية