الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . ولما خاطبه أولا بقوله : ( ألم تر ) أي [ ص: 271 ] ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم ؟ خاطبه ثانيا بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله ، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة ، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم ، بل عمم في ذلك وفي غيره . وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) فمن أظلم ممن كذب على الله .

وكيف : سؤال عن حال ، وانتصابه على الحال والعامل فيه يفترون والجملة في موضع نصب بانظر ; لأن انظر معلقة . وقال ابن عطية : وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بـ يفترون ؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله : يفترون انتهى . أما قوله : يصح أن يكون في موضع نصب بـ يفترون ، فصحيح على ما قررناه ؛ وأما قوله : ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله يفترون ، فهذا لم يذهب إليه أحد ؛ لأن كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها ؛ وإنما قوله : كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمرا ، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب ; لأنه ذكر أن الخبر هي الجملة من قوله : يفترون ، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى ؛ فلا يحتاج إلى رابط . فهذا الذي قال فيه ويصح ، هو فاسد على كل تقدير .

( وكفى به إثما مبينا ) تقدم الكلام في نظيره ، وكفى به . والضمير في به ، عائد على الافتراء ، وهو الذي أنكر عليهم . وقيل على الكذب . وقال الزمخشري : وكفى بزعمهم ; لأنه قال : " كيف يفترون على الله الكذب " في زعمهم أنهم عند الله أزكياء ، وكفى بزعمهم هذا إثما مبينا من بين سائر آثامهم انتهى . فجعل افتراءهم الكذب مخصوصا بالتزكية ، وذكرنا نحن أنه في هذا وفي غيره ، وانتصاب إثما على التمييز ، ومعنى مبينا ; أي بينا واضحا لكل أحد .

وقال ابن عطية : وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء ; لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب إثما ، ولا يطلب لهم غيره ; إذ هو موبق ومهلك انتهى . وفي ما ذكر من أن الباء دخلت ; لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر ، وقد أمعنا الكلام في قوله .

وكفى بالله وليا فيطالع هناك . ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) أجمعوا أنها في اليهود . وسبب نزولها أن كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب وجماعة معهما ، وردوا مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا . وقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلا أم محمد ؟ فقال كعب : ماذا يقول محمد ؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك . قال : وما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، وذكروا أفعالهم . فقال : أنتم أهدى سبيلا . وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف ، قاله ابن عباس . وقال عكرمة : خرج كعب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل .

والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش ؛ قاله عكرمة وغيره . أو الجبت هنا حيي والطاغوت كعب ؛ قاله ابن عباس أيضا . أو الجبت السحر والطاغوت الشيطان ، قاله مجاهد والشعبي . وروي عن عمر : والجبت الساحر والطاغوت الشيطان ، قاله زيد بن أسلم . أو الجبت الساحر والطاغوت الكاهن ، قاله رفيع ، وابن جبير . أو الجبت الكاهن والطاغوت الشيطان ، قاله ابن جبير أيضا . أو الجبت الكاهن والطاغوت الساحر ؛ قاله ابن سيرين . أو الجبت الشيطان والطاغوت [ ص: 272 ] الكاهن ؛ قاله قتادة . أو الجبت كعب والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان . أو الجبت الأصنام ، وكل ما عبد من دون الله والطاغوت الشيطان قاله الزمخشري . أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله الزجاج ، وابن قتيبة .

وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقا فقال : الجبت السحر قاله عمر ، ومجاهد والشعبي . أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك والفراء ، أو كعب بن الأشرف . رواه الضحاك ، عن ابن عباس . وليث ، عن مجاهد . أو الكاهن ، روي عن ابن عباس ، وبه قال مكحول ، وابن سيرين . أو الشيطان قاله ابن جبير في رواية ، وقتادة والسدي . أو الساحر قاله أبو العالية ، وابن زيد . وروى أبو بشر عن ابن جبير قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله عمر ، ومجاهد في رواية الشعبي ، وابن زيد . أو المترجمون بين يدي الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس ، أو كعب . رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك والفراء . أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، أو كل ما عبد من دون الله قاله مالك . وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد والجمهور ، وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ؛ وأنهما اثنان . وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام على المغيبات جبتا ; لكون علم الغيب يختص بالله تعالى . خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الطرق والطيرة والعيافة من الجبت الطرق الزجر والعيافة الخط . فإن الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ؛ فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ؛ وإن كان حييا وكعبا ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ؛ فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب إطلاق ثمرة الإيمان ؛ وهي الطاعة على الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية