الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3097 حدثنا عبد بن حميد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن محمد بن إسحق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا يعد أيامه قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت عليه قال أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت قال ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال فعجب لي وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إلى آخر الآية قال فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( لما توفي عبد الله بن أبي ) بن سلول بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام ، هو اسم امرأة وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية ، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار ، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه ( أعلى عدو الله ) أي أتصلي على عدو الله ( القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا يعد أيامه ) يشير بذلك إلى مثل قوله : " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " وإلى مثل قوله : " ليخرجن الأعز منها الأذل " ( ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبسم ) استشكل تبسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان تبسما ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك ، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيسا لعمر وتطييبا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته ( قال أخر عني ) أي كلامك ( قد خيرت ) أي بين الاستغفار وعدمه استغفر يا محمد لهم أو لا تستغفر لهم تخيير له في الاستغفار وتركه إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قيل المراد بالسبعين المبالغة في كثرة الاستغفار ، وقيل المراد العدد المخصوص لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " وسأزيده على السبعين " فبين له حسم المغفرة بآية : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم كما في رواية البخاري ( فعجب لي وجرأتي ) بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة ، أي إقدامي عليه .

                                                                                                          وفي رواية البخاري : فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          [ ص: 394 ] تنبيه : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( قد خيرت فاخترت ) يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم من الآية التخيير . واستشكل فهم التخيير منها حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه ، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه .

                                                                                                          قال الحافظ : والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل أو على التسوية لما يقتضيه سياق القصة وحمل السبعين على المبالغة .

                                                                                                          قال ابن المنير : ليس عند البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد .

                                                                                                          قال وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال سأزيد على السبعين استمالة لقلوب عشيرته لأنه أراد أنه إن زاد على السبعين يغفر له ، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال : لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت ، لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله : " سأزيد " ووعده صادق ولا سيما وقد ثبت قوله .

                                                                                                          وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابا للحال لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقيا على أصله في الجواز . وهذا جواب حسن . وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان ، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك ولا يخفى ما فيه . قال ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وأخذ بمفهوم العدد من السبعين ، فقال : سأزيد عليها مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فإن هذه الآية نزلت في قصة أبي طالب حين قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من [ ص: 395 ] الهجرة فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله : أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب ، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم ، وهذا الجواب ليس بمرضي عندي ونحوه قول الزمخشري ، فإنه قال :

                                                                                                          فإن قلت : كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي ، ولا سيما وقد تلاه قوله : ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم .

                                                                                                          قلت : لم يخف عليه ذلك ، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، وهو كقول إبراهيم عليه السلام : ومن عصاني فإنك غفور رحيم وفي إظهار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرأفة المذكورة ، لطف بأمته ، وباعث على رحمة بعضهم بعضا . انتهى .

                                                                                                          ومنهم من قال : إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي لمن مات مظهرا للإسلام لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا ، وهذا جواب جيد .

                                                                                                          وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز ، والترجيح أن نزولها كان متراخيا عن قصة أبي طالب جدا ، وأن الذي نزل في قصته : إنك لا تهدي من أحببت وحررت دليل ذلك هناك ، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيا عن القصة ، ولعل الذي نزل أولا وتمسك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم إلى هنا خاصة ، ولذلك اختصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين ، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء وفضحهم على رءوس الملأ ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله ، وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله : ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله نزل مع قوله : استغفر لهم أي نزلت الآية كاملة ، لأنه لو فرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة ، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي ، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخيا عن صدر الآية لارتفع الإشكال ، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح وكون ذلك وقع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه . انتهى .

                                                                                                          [ ص: 396 ] قوله : ( هذا حديث حسن غريب صحيح ) وأخرجه البخاري والنسائي .




                                                                                                          الخدمات العلمية