الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3104 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس أن حذيفة قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن فقال لعثمان بن عفان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف وقال للرهط القرشيين الثلاثة ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم حتى نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا قال الزهري وحدثني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها قال الزهري فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش قال الزهري فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبد الله بن مسعود يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة فالقوا الله بالمصاحف قال الزهري فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا حديث حسن صحيح وهو حديث الزهري لا نعرفه إلا من حديثه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أن حذيفة ) هو ابن اليمان ( وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ) أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو إرمينية وأذربيجان وفتحهما .

                                                                                                          قال الحافظ : إن إرمينية فتحت في خلافه عثمان ، وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي ، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك ، وكان [ ص: 410 ] أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري ، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم ، وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق . انتهى . وإرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة ، وقد تثقل . وقال ابن السمعاني : بفتح الهمزة ، وقال أبو عبيد : هي بلد معروف يضم كورا كثيرة . وقال الشاطبي : افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة . وأذربيجان بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء ، وقيل بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وآخره نون . وحكى ابن مكي كسر أوله وضبطها صاحب المطالع ، ونقله عن ابن الأعرابي ، بسكون الذال وفتح الراء : بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الآن تبريز وقصباتها ، وهي تلي إرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة ، واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق ، والمذكور في ضبط أذربيجان هو المشهور ، وقد تمد الهمزة ، وقد تحذف وقد تفتح الموحدة ، وقيل في ضبطها غير ذلك ( فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن ) وفي رواية البخاري : فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة . وذكر الحافظ هاهنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف في القراءة ، ففي رواية : يتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره .

                                                                                                          وفي رواية : فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة . وفي رواية : أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان ، فقال يا أمير المؤمنين : أدرك الناس ، قال : وما ذاك ؟ قال : غزوت فرج إرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا .

                                                                                                          وفي رواية : أنه سمع رجلا يقول : قراءة عبد الله بن مسعود ، وسمع آخر يقول : قراءة أبي موسى الأشعري ، فغضب ، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : هكذا كان من قبلكم اختلفوا ، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين . وفي رواية أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا : وأتموا الحج والعمرة لله وقرأ هذا : وأتموا الحج والعمرة للبيت ، فغضب حذيفة واحمرت عيناه . وفي رواية : قال حذيفة : يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود ، ويقول أهل البصرة : قراءة أبي موسى ، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يجعلها قراءة واحدة ( أدرك هذه الأمة ) أمر من [ ص: 411 ] الإدراك ، بمعنى التدارك ( فأرسل ) أي عثمان ( إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ) وكانت الصحف بعدما جمع القرآن أبو بكر عنده حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر ( ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ) أي ننقلها ، والمصاحف جمع المصحف بضم الميم . قال الحافظ : الفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر كانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة ، ولكن لم يرتب بعضها إثر بعض ، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض ، صارت مصحفا . انتهى . ( فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير : أن انسخوا الصحف ) أي انقلوا ما فيها .

                                                                                                          وفي رواية البخاري : فأمر ، مكان فأرسل . وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة ، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة . قال علي : لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا ، قال ما تقولون في هذه القراءة ، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد أن يكون كفرا . قلنا : فما ترى ؟ قال : نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرقة ولا اختلاف . قلنا : فنعم ما رأيت ( وقال ) أي عثمان ( للرهط القرشيين الثلاثة ) يعني سعيدا وعبد الرحمن وعبد الله ; لأن سعيدا أموي ، وعبد الرحمن مخزومي ، وعبد الله أسدي ، وكلها من بطون قريش ( فإنما نزل بلسانهم ) أي بلسان قريش .

                                                                                                          قال القاضي ابن أبي بكر بن الباقلاني : معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه ، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش ، فإن ظاهر قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا أنه نزل بجميع ألسنة العرب ، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة ، أو هما دون [ ص: 412 ] اليمن ، أو قريشا دون غيرهم ، فعليه البيان ; لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا ، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول : نزل بلسان بني هاشم مثلا ; لأنهم أقرب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسبا من سائر قريش ( إلى كل أفق ) بضمتين : أي طرف من أطراف الآفاق ( بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا ) زاد البخاري : وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق . قال ابن بطال : في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام . وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس : أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت ، وكذا فعل عروة ، وكرهه إبراهيم . وقال ابن عطية : الرواية بالحاء المهملة أصح ، وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت . وأما الآن : فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته ، هكذا في الفتح . وقال العيني : قال أصحابنا الحنفية : إن المصحف إذا بلي بحيث لا ينتفع به ، يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس .

                                                                                                          قلت : لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن ، ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم .

                                                                                                          قوله : ( قال الزهري : وحدثني خارجة بن زيد إلخ ) هذا موصول إلى الزهري بالإسناد المذكور .

                                                                                                          قوله : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الثبات مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنهم من قضى نحبه مات أو قتل في سبيل الله ومنهم من ينتظر ذلك ( فوجدتها مع خزيمة بن ثابت ، أو أبي خزيمة ) كذا في هذا الكتاب بالشك .

                                                                                                          وفي رواية البخاري : لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري بغير شك ( فألحقتها في سورتها ) فيه إشكال لأن ظاهره أنه اكتفى بخزيمة وحده ، والقرآن إنما يثبت بالتواتر ، والذي يظهر [ ص: 413 ] في الجواب أن الذي أشار إليه أنه فقده فقد وجودها مكتوبة ، لا فقد وجودها محفوظة ، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره . ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن : فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب .

                                                                                                          قوله : ( قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه ) أي هل هو بالتاء أو بالهاء ( فقال القرشيون التابوت ) أي بالتاء ( وقال زيد : التابوه ) أي بالهاء ( اكتبوه التابوت ) أي بالتاء .

                                                                                                          قوله : ( أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف إلخ ) العذر لعثمان رضي الله عنه في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة ، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر . وأيضا فإن عثمان أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر ، وأن يجعلها مصحفا واحدا ، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كاتب الوحي ، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره ( أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ) بصيغة المجهول ، أي أنحى عن نسخ المصاحف المكتوبة ( ويتولاها ) أي كتابة المصاحف ( اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها إلخ ) أي اخفوها واستروها .

                                                                                                          قال النووي : معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجمهور ، وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه ، فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه وبموافقة مصحف الجمهور ، وطلبوا مصحفه أن يحرقوه كما فعلوا بغيره فامتنع ، وقال لأصحابه : غلوا مصاحفكم ، أي اكتموها ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة يعني فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة ، وكفى لكم بذلك شرفا . ثم قال على سبيل الإنكار : ومن هو الذي تأمرونني أن آخذ بقراءته وأترك مصحفي الذي أخذته من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( فالقوا الله ) أمر من اللقاء ( فبلغني أن ذلك كره [ ص: 414 ] إلخ ) يعني أن رجالا من أفاضل الصحابة قد كرهوا قول ابن مسعود المذكور ، وقوله من مقالة ابن مسعود رضي الله عنه بيان لقوله ذلك .

                                                                                                          تنبيه : قال ابن التين وغيره : الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان ، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته ; لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد ، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات ، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض ، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك ، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره ، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش ، محتجا بأنه نزل بلغتهم ، وإن كان قد وسع في قراءته رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر ، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة ، وكان لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري .




                                                                                                          الخدمات العلمية