الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1382 53 - (حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأن الترجمة عين لفظ الحديث، والإسناد بعينه مضى في الباب الذي قبله، وهو: باب العرض في الزكاة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قدر، قال الخطابي: لأن الإيجاب قد بينه الله تعالى، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون على بابه بمعنى الأمر، يبينه قوله في الرواية التي مضت وهي التي أمر الله رسوله.

                                                                                                                                                                                  واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فقال مالك في الموطأ: تفسير "ولا يجمع بين متفرق" أن يكون ثلاثة أنفس لكل واحد أربعون شاة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها ليؤدوا شاة "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون لكل واحد مائة شاة فعليها ثلاث شياه، فيفرقونها ليؤدوا شاتين، فنهوا عن ذلك، وهو قول الثوري والأوزاعي، وقال الشافعي: تفسيره أن يفرق الساعي الأول ليأخذ من كل واحد شاة، وفي الثاني ليأخذ ثلاثا، فالمعنى واحد، لكن صرف الخطاب الشافعي إلى الساعي كما حكاه عنه الداودي في كتاب الأموال، وصرفه مالك إلى المالك، وهو قول أبي ثور، وقال الخطابي عن الشافعي: إنه صرفه إليهما، وقال أبو حنيفة: معنى "لا يجمع بين متفرق" أن يكون بين رجلين أربعون شاة، فإذا جمعاها فشاة، وإذا فرقاها فلا شيء "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون لرجل مائة شاة وعشرون شاة، فإن [ ص: 10 ] فرقها المصدق أربعين أربعين فثلاث شياه. وقال أبو يوسف: معنى الأول أن يكون لرجل ثمانون شاة فإذا جاء المصدق قال: هي بيني وبين إخوتي، لكل واحد عشرون فلا زكاة، أو أن يكون له أربعون ولإخوته أربعون، فيقول: كلها لي فشاة، وفي المحيط: وتأويل هذا أنه إذا كان له ثمانون شاة تجب فيها واحدة فلا يفرقها ويجعلها لرجلين فيأخذ شاتين، فعلى هذا يكون خطابا للساعي، وإن كانت لرجلين فعلى كل واحد شاة فلا تجمع ويؤخذ منها شاة، والخطاب في هذا يحتمل أن يكون للمصدق، بأن يكون لأحدهما مائة شاة وللآخر مائة شاة وشاة فعليهما شاتان، فلا يجمع المصدق بينهما، ويقول: هذه كلها لك، فيأخذ منه ثلاث شياه "ولا يفرق بين مجتمع" بأن يكون لرجل مائة وعشرون شاة، فيقول الساعي: هي لثلاثة فيأخذ ثلاث شياه، ولو كانت لواحد تجب شاة، ويحتمل أن يكون الخطاب لرب المال، ويقوى بقوله: "خشية الصدقة" أي: فيخاف في وجوب الصدقة، فيحتال في إسقاطها بأن يجمع نصاب أخيه إلى نصابه فتصير ثمانين، فيجب فيها شاة واحدة "ولا يفرق بين مجتمع" بأن يكون له أربعون، فيقول: نصفها لي ونصفها لأخي فتسقط زكاتها.

                                                                                                                                                                                  وفي المبسوط: والمراد من الجمع والتفريق في الملك لا في المكان؛ لإجماعنا على أن النصاب إذا كان في ملك واحد يجمع وإن كان في أمكنة متفرقة، فدل أن المتفرق في الملك لا يجمع في حق الصدقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "خشية الصدقة" مما تنازع فيه الفعلان، والخشية خشيتان، خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق.

                                                                                                                                                                                  قيل: لو فرض أن المالكين أرادا ذلك لإرادة تكثير الصدقة، أو وجوب ما لم يجب عليهما؛ التماسا لكثرة الأجر أو لإرادة وقوع ما أرادا التصدق به تطوعا ليصير واجبا، وثواب الواجب أكثر من ثواب التطوع - فالظاهر جواز ذلك.

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد من الحديث): النهي عن استعمال الحيل لسقوط ما كان واجبا عليه، ويجري ذلك في أبواب كثيرة من أبواب الفقه، وللعلماء في ذلك خلاف في التحريم أو الكراهة أو الإباحة، والحق أنه إذا كان ذلك لغرض صحيح فيه رفق للمعذور، وليس فيه إبطال لحق الغير - فلا بأس به من ذلك، كما في قوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وإن كان لغرض فاسد كإسقاط حق الفقراء من الزكاة بتمليك ماله قبل الحول لولده، أو نحو ذلك، فهو حرام أو مكروه على الخلاف المشهور في ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلا أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا، فتجب فيه الزكاة، خلافا لمن قال: يضم على الأجزاء كالمالكية، أو على القيم كالحنفية، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا استدلال غير صحيح؛ لأن النهي في الحديث معلل بخشية الصدقة، وفيه إضرار للفقراء بخلاف ما قاله المالكية والحنفية؛ فإن فيه نفعا للفقراء وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                  وقيل: استدل به لأحمد على أن من كان له ماشية في بلد لا تبلغ النصاب كعشرين شاة مثلا بالكوفة ومثلها بالبصرة أنها لا تضم باعتبار كونها ملك رجل واحد، ويؤخذ منها الزكاة.

                                                                                                                                                                                  قلت: قد ذكرنا عن قريب أن الجمع والتفريق أن يكون في الملك لا في المكان، وعن هذا قال ابن المنذر: خالفه الجمهور، فقالوا: يجب على صاحب المال زكاة ماله ولو كان في بلدان شتى ويخرج منه الزكاة.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية