الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1384 55 - حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: ويحك! إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "فهل لك من إبل تؤدي صدقتها، قال: نعم".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني وقد تكرر ذكره، الثاني: الوليد بن مسلم على لفظ الفاعل من الإسلام القرشي، الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الخامس: عطاء بن يزيد من الزيادة أبو زيد الليثي، السادس: أبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في موضع واحد، وفيه أن شيخه من أفراده، وفيه أن الوليد والأوزاعي شاميان وأن ابن شهاب وعطاء مدنيان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري أيضا في الهجرة عن علي بن عبد الله، وفي الأدب عن سليمان بن عبد الرحمن، وفي الهبة عن محمد بن يوسف، وأخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن خلاد عن الوليد به، وعن عبد الله بن عبد الرحمن، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن مؤمل بن الفضل، وأخرجه النسائي في البيعة وفي السير عن الحسين بن حريث، كلاهما عن الوليد به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: "أن أعرابيا" الأعرابي البدوي، وكل بدوي أعرابي وإن لم يكن من العرب، وإن كان يتكلم بالعربية وهو من العجم، قلت: فيه عرباني، قاله ابن قرقول.

                                                                                                                                                                                  وقال غيره: الأعرابي نسبة إلى الأعراب، والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعربي نسبة إلى العرب وهم الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية والمدن.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: ويحك" قال الداودي: ويح كلمة تقال عند الزجر والموعظة والكراهة لفعل المقول له أو قوله، ويدل عليه أنه إنما سأله أن يبايعه على ذلك على أن يقيم بالمدينة، ولم يكن من أهل مكة الذين وجبت عليهم الهجرة قبل الفتح وفرض عليهم إتيان المدينة والمقام بها إلى موته صلى الله عليه وسلم، وأنه ألح في ذلك.

                                                                                                                                                                                  قلت: الذي ذكره أهل اللغة في "ويح" أنها كلمة رحمة أو توجع إن وقع في هلكة لا يستحقها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إن شأنها شديد" أي: إن شأن الهجرة، وذلك لأنه سأله أن يبايعه على ذلك على أن يقيم بالمدينة، ولما علم صلى الله عليه وسلم أنه لا يهاجر قال له ذلك، وكان ذلك قبل الفتح قبل انقضاء الهجرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟" أي زكاتها، وإنما خص بصدقة الإبل مع أن أداء جميع الواجبات واجب; لأنه كان من أهل الإبل، والباقي منقاس عليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فاعمل من وراء البحار" معناه إذا كنت تؤدي فرض الله عليك في نفسك ومالك فلا تبال أن تقيم في بيتك، وإن كانت دارك من وراء البحار، ولا تهاجر؛ فإن الهجرة من جزيرة العرب، ومن كانت داره من وراء البحار لن يصل إليها.

                                                                                                                                                                                  وقيل: المراد من البحار البلاد، قيل: في قوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر إنه القرى والأمصار، ومنه: "اصطلح أهل البحيرة" يعني في ابن أبي أن يعصبوه يعني أهل المدينة. وفي [ ص: 15 ] حديث آخر: "كتب لهم ببحرهم" أي ببلدهم وأرضهم.

                                                                                                                                                                                  وقيل: البحار نفسها، وفي المطالع قال أبو الهيثم: من وراء البحار وهو وهم.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: لأنه لا مسكن وراء البحار.

                                                                                                                                                                                  قلت: المقصود منه: فاعمل ولو من البعد الأبعد من المدينة، ولم يرد منه حقيقة ذلك.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: فهل لمن أراد الهجرة من مكان لا يقدر فيه على إقامة حد الله ثواب الهجرة حيث تعذرت عليه؟ قلت: نعم، وكذلك كل طاعة كالمريض يصلي قاعدا، ولو كان صحيحا لصلى قائما، فإن له ثواب صلاة القائم.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: لم منعه من الهجرة؟

                                                                                                                                                                                  قلت: لأنها كانت متعذرة على السائل شاقة عليه، وكان الإيجاب حرجا عليه وإضرارا.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: لم لا تقول بأن هذه القصة كانت بعد نسخ وجوب الهجرة؛ إذ لا هجرة بعد الفتح؟

                                                                                                                                                                                  قلت: التاريخ غير معلوم، مع أن المنسوخ هو الهجرة من مكة، وأما غيرها فكل موضع لا يقدر المكلف فيه على إقامة حدود الدين فالهجرة عليه منه واجبة، انتهى كلام الكرماني.

                                                                                                                                                                                  وقال المهلب: كان هذا القول قبل فتح مكة؛ إذ لو كان بعده لقال له: "لا هجرة بعد الفتح" كما قاله لغيره، ولكنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم أن الأعراب قلما تصبر على لأواء المدينة. ألا يرى إلى قلة صبر الأعرابي الذي استقال الهجرة حين مسته حمى المدينة، فكأنه قال له: إذا أديت الحق الذي هو أكبر شيء على الأعراب ثم منحت منها وحلبتها يوم ورودها لمن ينتظرها من المساكين فقد أديت المعروف من حقها فرضا ونفلا، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل البيعة.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بهذا الأعرابي لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضا.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عبيد: كانت الهجرة على أهل الحاضرة ولم تكن على أهل البادية.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم؛ لئلا يجري على من أسلم أحكام الكفار، ولأن في هجرته توهينا لمن يسلم وتفريقا لجماعتهم، وذلك باق إلى اليوم إذا أسلم في دار الحرب ولم يمكنه إظهار دينه وجب عليه الخروج، فأما إذا أسلم كل من في الدار فلا هجرة عليهم؛ لحديث وفد عبد القيس. وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإن الله لن يترك من عملك شيئا" قال ابن بطال: لفظ الكتاب "يترك" بوزن مستقبل ترك، رواه بعضهم "يترك" بكسر التاء وفتح الراء على أن يكون مستقبل وتر يتر، ومعناه لن ينقصك، وفي القرآن: ولن يتركم أعمالكم أي: لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: ضبط في رواية الحسن بتشديد التاء وصوابه بالتخفيف، وعند الإسماعيلي: وقال الفريابي بالتشديد، والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية