الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب جناية المملوك والجناية عليه ) قال ( وإذا جنى العبد جناية خطإ [ ص: 338 ] قيل لمولاه : إما أن تدفعه بها أو تفديه ) وقال الشافعي : جنايته في رقبته يباع فيها إلا أن يقضي المولى الأرش ، وفائدة الاختلاف في اتباع الجاني بعد العتق . والمسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم . له أن الأصل في موجب الجناية أن يجب على المتلف لأنه هو الجاني ، إلا أن العاقلة تتحمل عنه ، ولا عاقلة للعبد لأن العقل عندي بالقرابة ولا قرابة بين العبد ومولاه فتجب في ذمته كما في الدين . ويتعلق برقبته يباع فيه كما في الجناية [ ص: 339 ] على المال .

ولنا أن الأصل في الجناية على الآدمي حالة الخطإ أن تتباعد عن الجاني تحرزا عن استئصاله والإجحاف به ، إذ هو معذور فيه حيث لم يتعمد الجناية ، وتجب على عاقلة الجاني إذا كان له عاقلة ، [ ص: 340 ] والمولى عاقلته لأن العبد يستنصر به ، والأصل في العاقلة عندنا النصرة حتى تجب على أهل الديوان . بخلاف الذمي لأنهم لا يتعاقلون فيما بينهم فلا عاقلة فتجب في ذمته صيانة للدم عن الهدر ، وبخلاف الجناية على المال ; لأن العواقل لا تعقل المال ، إلا أنه يخير بين الدفع والفداء لأنه واحد ، وفي إثبات الخيرة نوع تخفيف في حقه كي لا يستأصل ، غير أن الواجب الأصلي هو الدفع في الصحيح ، ولهذا يسقط الموجب بموت العبد لفوات محل الواجب وإن كان له حق النقل إلى الفداء كما في مال الزكاة ، بخلاف موت الجاني الحر لأن الواجب لا يتعلق بالحر استيفاء فصار كالعبد في صدقة الفطر . قال ( فإن دفعه ملكه ولي الجناية وإن فداه فداه بأرشها وكل ذلك يلزم حالا ) أما الدفع فلأن التأجيل في الأعيان باطل وعند اختياره الواجب عين .

[ ص: 341 ] وأما الفداء فلأنه جعل بدلا عن العبد في الشرع وإن كان مقدرا بالمتلف ولهذا سمي فداء فيقوم مقامه ويأخذ حكمه فلهذا وجب حالا كالمبدل ( وأيهما اختاره وفعله لا شيء لولي الجناية غيره ) أما الدفع فلأن حقه متعلق به ، فإذا خلى بينه وبين الرقبة سقط . وأما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش ، فإذا أوفاه حقه سلم العبد له ، [ ص: 342 ] فإن لم يختر شيئا حتى مات العبد بطل حق المجني عليه لفوات محل حقه على ما بيناه ، وإن مات بعدما اختار الفداء لم يبرأ لتحول الحق من رقبة العبد إلى ذمة المولى .

التالي السابق


لما فرغ من بيان أحكام جناية المالك وهو الحر والجناية عليه شرع في بيان أحكام جناية المملوك وهو العبد ، وأخره لانحطاط رتبة العبد عن رتبة الحر ، كذا في الشروح . أقول : فيه شيء ، وهو أن لقائل أن يقول : ما وقع الفراغ من بيان أحكام جناية الحر مطلقا بل بقي منه بيان حكم جناية الحر على العبد وهو إنما يتبين في هذا الباب ، وكذا ما وقع الفراغ من بيان [ ص: 338 ] أحكام الجناية على الحر مطلقا بل بقي منه بيان حكم جناية العبد على الحر ، وهو أيضا إنما يتبين في هذا الباب ، فالأظهر أن يقال : لما فرغ من بيان جناية الحر على الحر شرع في بيان جناية المملوك والجناية عليه ، ولما كان فيه تعلق بالمملوك ألبتة من جانب أخره لانحطاط رتبة المملوك عن المالك . ثم قال صاحب العناية : لا يقال : العبد لا يكون أدنى منزلة من البهيمة فكيف أخر باب جنايته عن باب جناية البهيمة ، لأن جناية البهيمة كانت باعتبار الراكب أو السائق أو القائد وهو مالك ا هـ .

أقول : فيه أيضا شيء ، إذ لقائل أن يقول : إن أراد أن جناية البهيمة كانت ألبتة باعتبار الراكب أو السائق أو القائد فهو ممنوع فإن جنايتها بطريق النفحة برجلها أو ذنبها وهي تسير لا يكون باعتبار أحد منهم . وإلا لوجب عليهم الضمان في تلك الصورة . وليس كذلك كما عرف في بابها . وكذا الحال فيما إذا أصابت بيدها أو رجلها حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه . وكذا إذا انفلتت فأصاب مالا أو آدميا ليلا أو نهارا كما عرف كل ذلك أيضا في بابها ، وإن أراد أن جنايتها قد تكون باعتبار أحد منهم فهو مسلم ولكن لا يتم به تمام التقريب . ويمكن أن يقال : الصور التي لا يجب فيها من فعل البهيمة ضمان على أحد بل يكون فعلها هدرا مما لا يترتب عليه حكم من أحكام الجناية في الشرع ، وإنما ذكرت في بابها استطرادا . وبناء الكلام هنا على ماله حكم من الأحكام الشرعية فيتم التقريب .

( قوله والمسألة مختلفة بين الصاحبة رضي الله عنهم ) قال في الكافي والكفاية : فعن ابن عباس رضي الله عنه مثل مذهبنا ، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما مثل مذهبه . وقال تاج الشريعة عن ابن عباس رضي الله عنه كما هو مذهبنا . وعن عمر وعلي رضي الله عنهما كما هو مذهبهما ، فإنهما قالا : عبيد الناس أموالهم ، وجنايتهم في قيمتهم : أي أثمانهم . وقال في غاية البيان : روى أصحابنا كالقدوري وغيره في كتبهم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إذا جنى العبد إن شاء دفعه وإن شاء فداه . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : عبيد الناس أموالهم ، وجنايتهم في قيمتهم وعن علي رضي الله عنه مثله . وقال في معراج الدراية . روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : عبيد الناس أموالهم جزاء جنايتهم في رقاب الناس كمذهبنا ، وهكذا روي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم . وروي [ ص: 339 ] عن عمر رضي الله عنه مثل مذهبه ، فإنه قال : عبيد الناس أموالهم جزاء جنايتهم في قيمتهم : أي في أثمانهم ، لأن الثمن قيمة العبد ا هـ .

أقول : قد اضطربت كلماتهم في الرواية عن علي رضي الله عنه ، فبعضهم نقل الرواية عنه مثل مذهب الخصم وبعضهم نقلها عنه مثل مذهبنا كما ترى . ثم أقول : قد خالف الكل هنا صاحب البدائع حيث قال : ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روى عن علي وعبد الله بن عباس مثل مذهبنا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد منهم فيكون إجماعا منهم ا هـ .

ولا يخفى أنه يخالف قول العامة والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم .

( قوله ولنا أن الأصل في الجناية على الآدمي في حالة الخطإ أن تتباعد عن الجاني إلخ ) قال صاحب العناية : فيه بحث ، وهو أن الحكم في المسألة مختلف ، فإن حكمها عندنا الوجوب على المولى وعنده الوجوب على العبد كما ذكرنا وهو بناه على أصل ونحن على أصل فمن أين يقوم لأحدنا حجة على الآخر . ويمكن أن يقال : الشافعي رحمه الله تعالى جعل وجوب موجب جنايته في ذمته كوجوب الدين في ذمته وكوجوب الجناية على المال ، فنحن إذ بينا الفرق بينهما بقي أصله بلا أصل فبطل ، وقد بين المصنف ذلك بقوله بخلاف الذمي فإنهم لا يتعاقلون فيما بينهم فتجب في ذمته صيانة للدم عن الهدر . وقوله وبخلاف الجناية على المال لأن العواقل لا تعقل المال فيجب في ذمته ، وأما أصلنا فهو ثابت في نفسه مستندا إلى النص الذي لا يعقل إبطاله ليس بمقيس على ما يبطل بإبداء الفارق ، إلى هنا كلاما . أقول : جوابه ليس بتام .

أما أولا فلأنه لا شك أن مدار دليل الشافعي ليس على قياس وجوب موجب جناية العبد في ذمته على وجوب الدين في ذمته ووجوب الجناية على المال في ذمته حتى يلزم من بيان الفرق بين المقيس والمقيس عليه أن يبقى مذهبه بلا أصل ، بل مدار دليله على أن لا عاقلة للعبد بناء على أن العقل عنده بالقرابة لا غير ، وإنما ذكر وجوب الدين في ذمته ووجوب الجناية على المال في ذمته في ذيل دليله لمجرد التنظير كما يرشد إلى ذلك كله تقرير المصنف ، فلا يلزم من بيان الفرق بين مسألتنا وبين ما ذكره بطريق التنظير بقاء أصله بلا أصل كما لا يخفى .

وأما ثانيا فلأن للشافعي أن يقول : أصلنا مستند إلى النص كما أن أصلكم مستند إلى النص ، وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه ليس بمقيس على ما يبطل بإبداء الفرق . ثم أقول : الحق في الجواب عن البحث المذكور أن يقال : الكلام في تعليل هذه المسألة من قبيل رد المختلف إلى المختلف وهو أن العاقلة من هي ؟ فقال الشافعي هي أهل العشيرة ، وقلنا : هي أهل النصرة ، وقد ذكر ذلك في أوائل كتاب المعاقل مدللا [ ص: 340 ] ومفصلا ، وقد قامت لنا حجة على الشافعي هناك فاكتفينا هنا بجعل ذلك المختلف أصلا لهذا المختلف كما ترى ( قوله والمولى عاقلته لأن العبد يستنصر به ) قال بعض الفضلاء : ليس يخالف هذا حديث { لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا } ا هـ . وقال صاحب التسهيل : يشكل هذا على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العبد إذا جنى على الحر لا يعقله العاقلة عنده فلا يصح هذا التعليل على مذهبه ا هـ .

وذكره أيضا بعض العلماء في حاشيته على شرح صدر الشريعة للوقاية أخذا من التسهيل كما هو حاله في أكثر إيراداته في تلك الحاشية . أقول : في الجواب عما ذكره كلهم هنا أن لفظة العاقلة إنما تطلق على الجماعة لا على الواحد كما يفصح عنه كلام الفقهاء وكلمات أهل اللغة أيضا ، فإن الفقهاء قالوا : العاقلة الذين يعقلون : أي يؤدون العقل وهو الدية كما سيجيء في الكتاب . وفي المغرب : العاقلة هي الجماعة التي تغرم الدية ، وهم عشيرة الرجل أو أهل ديوانه : أي الذين يرتزقون من ديوان على حدة ا هـ .

وقال في الصحاح : وعاقلة الرجل عصبته ، وهم القرابة من قبل الأب الذين يعطون دية من قتله خطأ . وقال أهل العراق : هم أصحاب الدواوين

ا هـ . إلى غير ذلك من المعتبرات . فإذا تقرر هذا تبين أن المراد بما في الحديث أن العواقل [ ص: 341 ] التي هي الجماعات لا تعقل عبدا كما تعقل حرا ، وأن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو أن العبد إذا جنى على الحر لا تعقله العاقلة : أي الجماعة بل يغرم مولاه جنايته ، فقول المصنف وغيره هنا والمولى عاقلته من قبيل التشبيه البليغ . ومعناه والمولى كعاقلته لأن العبد يستنصر به كما يستنصر الحر بعاقلته يرشد إليه قول صاحب الكافي في كتاب المعاقل : لا تعقل العاقلة ما جنى العبد على حر ; لأن المولى في كونه مخاطبا بجناية العبد بمنزلة العاقلة ولا يتحمل عن العاقلة عواقلهم فكذا لا يتحمل جناية العبد عاقلة مولاه ا هـ .

فلا يخالف ما ذكروا هنا حديث { لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا } ولا يشكل هذا على مذهب أئمتنا من أن العبد إذا جنى على الحر لا تعقله العاقلة فتبصر .

( قوله وأما الفداء فلأنه جعل بدلا عن العبد في الشرع وإن كان مقدرا بالمتلف ولهذا سمي فداء فيقوم مقامه ويأخذ حكمه فلهذا وجب حالا كالمبدل ) قال في العناية قيل : كون الشيء بدلا عن شيء لا يستلزم الاتحاد في الحكم ; ألا يرى أن المال قد يقع بدلا عن القصاص ولم يتحد في الحكم فإن القصاص لا يتعلق به حق الموصى له وإذا صار مالا تعلق به ، وكذلك التيمم بدل عن الوضوء والنية من شرطه دون الأصل وغير ذلك ، وأجيب أن الفداء لما وجب بمقابلة الجناية في النفس أو العضو أشبه الدية والأرش وهما يثبتان مؤجلا وذلك يقتضي كون الفداء كذلك ، ولما اختاره المولى كان دينا في ذمته كسائر الديون وذلك يقتضي كونه كذلك ، أي كسائر الديون حالا ، لأن الأجل في الديون عارض ولهذا لا يثبت إلا بالشرط كما تقدم ، فتعارض جانب الحلول والأجل فترجح جانب الحلول بكونه فرع أصل حال موافقة بين الأصل وفرعه ، وهذا كلام حسن وإن لم يكن في لفظ المصنف ما يشعر به ا هـ .

أقول : بل هو كلام قبيح ، لأن الموافقة في الحكم بين الأصل وفرعه إن كانت أمرا لازما أو راجحا يرتفع السؤال عن أصله ، ويكفي ذكر هذه المقدمة في الجواب عنه ، ويصير باقي المقدمات المذكورة في الجواب المزبور مستدركا جدا ، وإن لم تكن أمرا لازما ولا راجحا فكيف يتم ترجيح جانب الحلول بكونه فرع أصل حال .

وقال في العناية : ويجوز أن يقال : الأصل أن لا يفارق الفرع الأصل إلا بأمور ضرورية ، فإن الأصل عند المحصلين عبارة عن حالة مستمرة لا تتغير إلا بأمور ضرورية ، والمسائل المذكورة تغيرت بذلك لأن القصاص غير صالح لحق الموصى له بالمال فلا يتعلق حقه به ، والتراب غير مطهر بطبعه فلم يكن بد من إلحاق النية به ليكون مطهرا شرعا ، بخلاف الماء ، وفيما نحن فيه ليس أمر ضروري يمنعه عن الحلول الذي هو حكم أصله فيكون ملحقا به ا هـ .

أقول : فيه بحث ، إذ كان حاصل السؤال أن كون الشيء بدلا عن شيء لا يستلزم الاتحاد في الحكم فيلزم أن يكون المراد في الجواب بقوله الأصل أن لا يفارق الفرع الأصل إلا بأمور ضرورية ، هو أن الأصل أن لا يفارقه في الحكم إلا بأمور ضرورية ، ولا يدل عليه التعليل الذي ذكره بقوله فإن الأصل عند المحصلين عبارة عن حالة مستمرة لا تتغير إلا بأمور ضرورية ، إذ الظاهر أن معنى كون الأصل عند المحصلين عبارة عن حالة مستمرة لا تتغير إلا بأمور ضرورية هو كونه عندهم عبارة عن حالة مستمرة لا تتغير نفسها إلا بالضرورة ، لا كونه عبارة عن حالة مستمرة لا يتغير حكمها بعد أن تغيرت نفسها إلا بالضرورة ، والمطلوب فيما نحن فيه هو الثاني دون الأول فلا يتم التقريب فتأمل تفهم .

( قوله وأما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش ) أقول : فيه إشكال سيما في الحصر ، [ ص: 342 ] إذ قد تقرر فيما قبل أن الواجب الأصلي في جناية العبد هو الدفع في الصحيح ولهذا يسقط الموجب بموت العبد لفوات محل الواجب ، إلا أنه كان للمولى حق النقل إلى الفداء كما في مال الزكاة ، فإذن كان حق ولي الجناية منحصرا في الدفع على ما هو الواجب الأصلي في جناية العبد ، فإن لم ينحصر فيه فما معنى حصره في الأرش بقوله لا حق له إلا الأرش ، وهذا يكون مناقضا [ ص: 343 ] لما ذكره قبيله بقوله أما الدفع فلأن حقه متعلق به




الخدمات العلمية