الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله ، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله أمر بالقيام بإحياء دينه ، وإعلاء دعوته ، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال : خذوا حذركم . فعلمهم مباشرة الحروب . ولما تقدم ذكر المنافقين ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد ، فنادى ولا باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم ، والحذر والحذر بمعنى واحد . قالوا : ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك . ومعنى خذ حذرك : أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه ، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره . ويقال : أخذ حذره إذا احترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم ، والمعنى : احترزوا من العدو . ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة ، وسرية بعد سرية ، أو كتيبة واحدة مجتمعة .

وقرأ الجمهور : فانفروا بكسر الفاء فيهما . وقرأ الأعمش : بضمها فيهما ، وانتصاب ( ثباتا ) و ( جميعا ) على الحال . ولم يقرأ ( ثبات ) فيما علمناه إلا بكسر التاء . وقال الفراء : العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها . أنشدني بعضهم :


فلما جلاها بالايام تحيزت ثباتا عليها ذلها واكتئابها

ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى . وأوفى أو انفروا للتخيير . وقال ابن عباس : هذه الآية نسختها . ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) قيل : وإنما عني بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم .

( وإن منكم لمن ليبطئن ) الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد في آخرين : لمن ليبطئن هم المنافقون ، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس ، أو النسب ، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهرا . وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه . وقيل : هم ضعفة المؤمنين . ويبعد هذا القول قوله : عند مصيبة المؤمنين ( قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) وقوله : [ ص: 291 ] ( كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن ؛ إنما يصدر عن منافق . واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير : للذي والله ليبطئن . والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن ، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن .

قالوا : وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير ؛ فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، ولا حجة فيها لأن جملة القسم محذوفة ؛ فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول ، واحتمل أن لا يكون . وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : ( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ) في قراءة من نصب ( كلا ) وخفف ميم ( لما ) أي : وإن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج . وقال ابن عطية : اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور . وقيل : هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى . وهذا القول الثاني خطأ . وقرأ الجمهور : ليبطئن بالتشديد . وقرأ مجاهد : ليبطئن بالتخفيف . والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازما ؛ لأنهم يقولون : أبطأ وبطأ في معنى بطؤ . ويحتمل أن يكون متعديا بالهمزة أو التضعيف من بطؤ ، فعلى اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد ، وعلى التعدي أكثر المفسرين .

( فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) المصيبة : الهزيمة . سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الأدبار وعدم الثبات . ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر :


إن كنت صادقة كما حدثتني     فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل عنهم     ونجا برأس طمرة ولجام

عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة . وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه :


وقد كان فوت الموت سهلا فرده     إليه حفاظ المر والخلق الوعر
فأثبت في مستنقع الموت رجله     وقال لها من تحت أخمصك الحشر

وقيل : المصيبة القتل في سبيل الله ؛ سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى . وقيل : المصيبة الهزيمة والقتل . والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب ، أو المقتول في سبيل الله ، يقوله المنافق استهزاء ؛ لأنه لا يعتقد حقيقة المشاهدة في سبيل الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية