الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( 65 ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ( 66 ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( 67 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) أي : حثهم على القتال . [ ص: 375 ] ( إن يكن منكم عشرون ) رجلا ( صابرون ) محتسبون ، ( يغلبوا مائتين ) من عدوهم يقهروهم ، ( وإن يكن منكم مائة ) صابرة محتسبة ، ( يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) ذلك ( بأنهم قوم لا يفقهون ) أي : إن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال ، خشية أن يقتلوا . وهذا خبر بمعنى الأمر ، وكان هذا يوم بدر فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين ، فثقلت على المؤمنين ، فخفف الله عنهم ، فنزل :

                                                                                                                                                                                                                                      ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) أي : ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف ، وقرأ أبو جعفر : " ضعفاء " بفتح العين والمد على الجمع ، وقرأ الآخرون بسكون العين ، ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) من الكفار ، ( وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سفيان قال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ أهل الكوفة : " وإن يكن منكم مائة " ، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما . وقرأ عاصم وحمزة " ضعفاء " بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم ، والباقون بضمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : " تكون " بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : " أسارى " ، والآخرون . " أسرى " .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تقولون في هؤلاء " ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " [ ص: 376 ] " إبراهيم - 36 " ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " " المائدة - 118 " ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " " نوح - 26 " ، ومثل موسى قال : " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " " يونس - 88 " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق " ، قال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إلا سهيل بن بيضاء " . قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل الله تعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " " الأنفال 67 - 69 " فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : " له أسرى " جمع أسير مثل قتلى وقتيل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ( حتى يثخن في الأرض ) أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم ، ( تريدون ) أيها المؤمنون ( عرض الدنيا ) بأخذكم الفداء ، ( والله يريد الآخرة ) يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصر دين الله - عز وجل - ، " والله عزيز حكيم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى " فإما منا بعد وإما فداء " ، " محمد - 4 " فجعل الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم ، [ ص: 377 ] وإن شاءوا أعتقوهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية