الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة

                                                      وهل يدخل في العموم الصور غير المقصودة ؟ فيه قولان حكاهما [ ص: 76 ] القاضي عبد الوهاب في " الملخص " وقال : ذهب متقدمو أصحابنا إلى وجوب وقف العموم على ما قصد به ، وأن لا يتعداه إلى غيره إلا بدليل ، وإن كانت الصيغة تقتضيه . وبه قال أبو بكر القفال وغيره من الشافعية .

                                                      وذهب أكثر متأخري أصحابنا إلى منع الوقف فيه ، ووجوب إجرائه على موجبه لغة . قال : وصورة المسألة أن يستدل بقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } إلى قوله : { فالآن باشروهن } على إباحة كل نوع مختلف في جواز أكله ، أو شرب بعض ما يختلف في شربه ، وقد علم أن المقصود من الأكل والجماع في ليلة الصيام لا يحرم بعد النوم نسخا لما تقدم . وبقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } الآية ، على وجوب الزكاة في نذر مختلف فيه أو نوع مختلف في تعلق الزكاة به ، وكذلك التعلق بالخطاب الخارج على المدح والذم ، نحو قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } على جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين ونحوه .

                                                      قلت : وستأتي ترجمة المسألة ب " العام بمعنى المدح ، والذم هل هو عام أو لا ؟ فهي فرد من أفراد هذه ، فيعاب على من ذكرهما في كتابه من غير تنبيه إلى ما أشرنا إليه ، وظهر من هذا أن الشافعي يرى وقفه على ما قصد به ، وأنه غير عام ، ولهذا منع الزكاة في الحلي منع التمسك في الوجوب بقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لأن العموم لم يقع مقصودا ، وإنما وقع هنا قرينة الذم ، وقرينة الذم أخرجته عن العموم ، والحنفية يميلون إليه ، ويبنون عليه أصولا في باب [ ص: 77 ] الوقف ، واستنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في " الفتاوى " أن المقاصد تعتبر ، أعني مقاصد الواقفين فيتخصص بها العموم ، ويعم بها الخصوص . تنبيه

                                                      استشكل بعض المتأخرين هذه المسألة بأنها لا تتصور في كلام الله المنزه عن الغفلة والقائل بعدم الدخول ، قال بعدم خطورها بالبال ، وهو لا يتصور في حق الله ، وإنما يتصور بالنسبة إلينا . وجوابه : أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب ، ويتصور أن يأتي العربي بلفظ عام على قصد التعميم مع ذهوله عن بعض المسميات ، فلما كان هذا معتادا في لغة العرب ، كذلك الكتاب والسنة يكونان على هذا الطريق ، وإليه أشار سيبويه في كتابه حيث وقع في القرآن الرجا " بلعل ، وعسى " ، ونحو ذلك مما يستحيل في حق الله تعالى ، إذ ذلك نزل مراعاة للغتهم . قاعدة

                                                      ذكر إمام الحرمين في باب التأويل ، وإلكيا الطبري تقسيما نافعا ، وزاده وضوحا الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، وهو أن اللفظ العام بوضع اللغة على ثلاث مراتب .

                                                      إحداها : ما ظهر . منه قصد التعميم بقرينة زائدة على اللفظ مقالية أو حالية بأن أورد مبتدأ لا على سبب ، لقصد تأسيس القواعد ، فلا إشكال في العمل بمقتضى عمومه . قال إلكيا : والقرائن إما أن تنشأ عن غير اللفظ [ ص: 78 ] كالنكرة في سياق النفي والتعليل ، فإنه أمارة الحكم على الإطلاق ، وإما أن ينشأ من اتساق الكلام ونظمه على وجه يظهر منه قصد العموم ، كقوله : { لا يقتل مؤمن بكافر } بعد أن قسم البابين قسمين .

                                                      الثانية : ما يعلم أن مقصود الشرع فيه التعرض لحكم آخر ، وأنه بمعزل عن قصد العموم ، فهل يتمسك بعمومه ، إذ لا تنافي بينه وبين إرادة اللفظ بغيره ؟ أو يقال : لا ، لأن الكلام فيه مجمل ، فيتبين من الجهة الأخرى فيه ؟ قولان .

                                                      قال إلكيا : والصحيح أنه لا يتعلق بعمومه ، كقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب } ، لأن العرب ما وضعت للوعيد لفظا أحسن منه . ومثله الشيخ تقي الدين بقوله عليه السلام : { فيما سقت السماء العشر } ، فإن اللفظ عام في القليل والكثير ، لكن ظهر أن المقصود منه بيان قدر المخرج ، لا قدر المخرج منه ، ويؤخذ ذلك من قوله : { ليس فيما [ ص: 79 ] دون خمس أوسق } ، فهذا لا عموم له في قصده ، والحنفي يحتج به في وجوب الزكاة في الحرث ، سواء القليل والكثير ، والسياق لا يقتضيه .

                                                      قال الشيخ : والتحقيق عندي أن دلالته على ما لم يقصد به أضعف من دلالته على ما قصد به ، ومراتب الضعف متفاوتة ، والدلالة على تخصيص اللفظ وتعين المقصود مأخوذة من قرائن ، وتضعف تلك القرينة عن دلالة اللفظ على العموم ، ومن فوائد هذا أن ما كان غير مقصود يخرج عنه بذلك قرينة الحال ، لا يكون في قرينة الذي يخرج به العموم عن المقصود ، وهذه هي مسألة القاضي عبد الوهاب التي حكى فيها الخلاف في وقف العموم على المقصود وعدمه .

                                                      الثالثة : ما يحتمل الأمرين ، ولم يظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم ولا على عدمه ، كقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } فيحتج به على إبطال شراء [ ص: 80 ] الكافر للعبد المسلم ، فإن الملك نفي السبيل قطعا ويجوز أن لا يراد ذلك باللفظ . قال الطبري : وهو محتمل والمنع منه ظاهر . وقال إمام الحرمين : الواجب في هذا القسم أنه إذا أول وعضد بقياس اتباع الأرجح في الظن ، فإن استويا وقف القاضي .

                                                      وقال الغزالي : هي للإجمال أقرب من العموم ، ومثله بقوله تعالى : { وافعلوا الخير } في التمسك به على إيجاب الوتر ، وبالآية السابقة على قتل المسلم بالذمي ، وكذلك بقوله : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ، فإن إيجاب القصاص تسوية . قال : فلفظ الخير والسبيل والاستواء إلى الإجمال أقرب .

                                                      قال : وليس منه { فيما سقت السماء العشر } ، خلافا لقوم منعوا التمسك بعمومه ، لأن المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصفه ، وهو فاسد لأن صيغته عامة ، لأنها من أدوات الشرط بخلاف السبيل والخير والاستواء ، نعم تردد الشافعي في قوله تعالى : { وأحل الله البيع } أنه عام أو مجمل ؟ وسنذكره ذيل الكلام في تعميم اسم الجنس المفرد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية