الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      3606 حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال فنزلت فيهم يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت الآية

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( وعدي بن بداء ) بفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة مع المد ( فمات السهمي ) وكان لما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ذكره القسطلاني ( فلما قدما ) أي : تميم وعدي ( فقدوا ) أي : أهل المتوفى ( جام فضة ) أي : كأسا من فضة ( مخوصا بالذهب ) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو [ ص: 14 ] المشددة آخره صاد مهملة أي : فيه خطوط طوال كالخوص ، وكانا أخذاه من متاعه ( ثم وجد ) بصيغة المجهول ( فقالوا ) أي : الذين وجد الجام معهم ( فقام رجلان ) هما عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ( لشهادتنا أحق من شهادتهما ) أي : يميننا أحق من يمينهما .

                                                                      قال الخطابي : في هذا حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي ، والآية محكمة لم ينسخ منها في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل ، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء ، وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآية على الوصية دون الشهادة ، لأن نزول الآية إنما كان في الوصية وتميم الداري وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون ، وقد حلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله أي : أمانة الله ، وقالوا معنى قوله تعالى أو آخران من غيركم أي : من غير قبيلتكم ، وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي شهد أقرباؤه وعشيرته دون الأجانب والأباعد . ومنهم من زعم أن الآية منسوخة ، والقول الأول أصح والله أعلم ، انتهى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم أي : ليشهد ما بينكم ، لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر .

                                                                      واختلف في هذه الشهادة ، فقيل : هي هنا بمعنى الوصية ، وقيل : بمعنى الحضور للوصية . وقال ابن جرير الطبري : هي هنا بمعنى اليمين ، أي : يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ، واختار هذا القول القفال ، وضعف ذلك ابن عطية واختار أنها هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود ، أي : الإخبار بحق للغير على الغير .

                                                                      قال القرطبي : ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور ، قال الله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وبمعنى قضى ، قال تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو وبمعنى أقر ، قال تعالى : وشهد شاهد من أهلها وبمعنى حلف ، قال تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات وبمعنى وصى ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم انتهى . [ ص: 15 ] وقال الخطيب والخازن : وهذه الآية الكريمة وما بعدها من أشكل آي القرآن وأصعبها حكما وإعرابا وتفسيرا ونظما انتهى .

                                                                      وفي حاشية الجمل على الجلالين : هذه الآية واللتان بعدها من أشكل القرآن حكما وإعرابا وتفسيرا ، ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب في كتابه الكشف : هذه الآيات في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي القرآن وأشكله . وقال السخاوي : ولم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها ، انتهى .

                                                                      وقال القرطبي : ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا وقال التفتازاني في حاشيته على الكشاف : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما والله أعلم .

                                                                      ( إذا حضر أحدكم الموت ) ظرف للشهادة ، وحضوره ظهور أمارته ، يعني : إذا قارب وقت حضور الموت ( الآية ) وتمام الآية مع تفسيرها هكذا ( حين الوصية ) : بدل من الظرف ، وفيه دليل أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها ( اثنان ) خبر " شهادة " ، أي : شهادة بينكم شهادة اثنين . قال الخازن : لفظه خبر ومعناه الأمر ، يعني : ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية ( ذوا عدل منكم ) من المسلمين ، وقيل من أقاربكم ، وهما أي : ذوا عدل ومنكم صفتان لاثنان يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين .

                                                                      واختلفوا في هذين الاثنين ، فقيل : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي ، وقيل : هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ، ولأنه قال تعالى : فيقسمان بالله والشاهد لا يلزمه يمين ، وجعل الوصي اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرت ( أو آخران ) عطف على اثنان ( من غيركم ) يعني من غير دينكم ، فالضمير في منكم للمسلمين ، والمراد بقوله " غيركم " الكفار وهو الأنسب بسياق الآية ، وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين ويحيى بن يعمر وأبي مجلز وعبيدة السلماني ومجاهد وقتادة ، وبه قال الثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل ، قالوا : إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا ، لأن هذا موضع ضرورة .

                                                                      [ ص: 16 ] قال شريح : من كان بأرض غربة لم يجد مسلما يشهد وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ، ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلما .

                                                                      وقال قوم في قوله : ذوا عدل منكم يعني من عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين ، هذا قول الحسن والزهري وعكرمة ، وقالوا : لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام . وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة ، غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض .

                                                                      واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ .

                                                                      واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية : يا أيها الذين آمنوا فعم بهذا الخطاب جميع المؤمنين ، ثم قال بعده : ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين ، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين ، وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ، ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله ، وإذا كان ذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار ، والضرورات قد تبيح شيئا من المحظورات .

                                                                      واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال : ممن ترضون من الشهداء والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولا ، فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال ، قاله الخازن .

                                                                      قلت : الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ .

                                                                      وأما قوله تعالى : ممن ترضون الآية ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال ، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين ، ولا تعارض بين خاص وعام والله أعلم .

                                                                      ( إن أنتم ضربتم ) أي : سافرتم ( في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) عطف على [ ص: 17 ] ضربتم وجواب الشرط محذوف أي : إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين فيجوز إشهاد غير المسلمين ، كذا في جامع البيان . والمعنى أي : فنزل بكم أسباب الموت وقاربكم الأجل وأردتم الوصية حينئذ ولم تجدوا شهودا عليها من المسلمين فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما ، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة ، فالحكم فيه أنكم ( تحبسونهما ) وتوقفونهما صفة للآخران أو استئناف ( من بعد الصلاة ) أي : بعد صلاة العصر ، فإن أهل الكتاب أيضا يعظمونها ، أو بعد صلاة ما ، أو بعد صلاتهم ( فيقسمان بالله ) أي : فيحلفان بالله . قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان ، فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة ، وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها ، قاله الخازن .

                                                                      وقال الشربيني : وعن ابن عباس أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا ، فإن كانا مسلمين فلا يمين . وعن غيره : إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما وإن كانا الوصيين فلا ، ثم شرط لهذا الحلف شرطا فقال اعتراضا بين القسم والمقسم عليه ( إن ارتبتم ) أي : شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما فحلفوهما ، وهذا إذا كانا كافرين ، أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما ؛ لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع ، قاله الخازن . ثم ذكر المقسم عليه بقوله ( لا نشتري به ) أي : بالقسم ( ثمنا ) الجملة مقسم عليه أي : لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ، ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده ، ولا نستبدل به عرضا من الدنيا بل قصدنا به إقامة الحق ( ولو كان ) المشهود له ومن نقسم له ( ذا قربى ) ذا قرابة منا لا نحلف له كاذبا ، وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم ولا نكتم شهادة الله : أي : الشهادة التي أمر الله بإقامتها إنا إذا لمن الآثمين أي : إن كتمنا الشهادة أو خنا فيها . ولما نزلت هذه الآية صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ودعا تميما وعديا وحلفهما على المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا على ذلك فخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهما ثم ظهر الإناء بعد ذلك ، قال ابن عباس وجد الإناء بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي .

                                                                      ( فإن عثر ) اطلع بعد حلفهما ، وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه ( على أنهما استحقا إثما ) يعني الوصيين والمعنى فإن حصل العثور والوقوف على [ ص: 18 ] أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة ( فآخران ) فشاهدان آخران من أولياء الميت وأقربائه ( يقومان مقامهما ) خبر لقوله فآخران ، أي : مقام الوصيين في اليمين ( من الذين استحق ) قرئ بصيغة المجهول والمعروف ( عليهم ) الوصية وهم الورثة . قال أبو البقاء : ومن الذين صفة أخرى لآخران ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في يقومان انتهى . ويبدل من آخران ( الأوليان ) هو على القراءة الأولى مرفوع ، كأنه قيل من هما فقيل هما الأوليان ، والمعنى على الأولى من الذين استحق الإثم أي : جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم ، فالأوليان تثنية أولى بمعنى الأحق والأقرب إلى الميت نسبا . وفي حاشية البيضاوي : فقوله : " من الذين استحق " قراءة الجمهور بضم التاء على بناء المجهول ، والمعنى من الورثة الذين جنى عليهم ، فإن الأولين لما جنيا واستحقا إثما بسبب جنايتهما على الورثة كانت الورثة مجنيا عليهم متضررين بجناية الأولين انتهى . والمعنى على القراءة الثانية : من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت ، فالأوليان فاعل استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة ، وقيل المفعول محذوف والتقدير من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها . وفي الخازن : والمعنى على قراءة المجهول أي : إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته ( فيقسمان بالله ) أي : فيحلفان بالله ( لشهادتنا أحق من شهادتهما ) يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما ( وما اعتدينا ) يعني في أيماننا وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما إنا إذا لمن الظالمين ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان وهما من أهل الميت وحلفا بالله بعد العصر ودفع الإناء إليهما ، وإنما ردت اليمين على أولياء الميت ؛ لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهم الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ، ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال : إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ، ولما أسلم تميم الداري بعد هذه القصة كان يقول : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء ، فأنا أتوب إلى الله وأستغفره .

                                                                      ( ذلك ) أي : البيان الذي قدمه الله تعالى في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد [ ص: 19 ] الوصية في السفر ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار وفي الخازن : يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم ( أدنى ) أي : أجدر وأحرى وأقرب إلى ( أن يأتوا بالشهادة ) أي : يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة ( على وجهها ) فلا يحرفوا ولا يبدلوا ولا يخونوا فيها ، والضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار ، وقيل إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم ، والمراد تحذيرهم من الخيانة وأمرهم بأن يشهدوا بالحق أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم أي : وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على الورثة المدعين فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فتفتضح حينئذ شهود الوصية ، وهو معطوف على قوله : أن يأتوا فيكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم ، فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة .

                                                                      وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين ، فإن لم يجد شهودا مسلمين وكان في سفر ووجد كفارا جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته ، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئا ولا خانا مما ترك الميت شيئا فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت وزعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك .

                                                                      وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت .

                                                                      قال تميم : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام ، فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله .

                                                                      قال تميم : ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، ثم أقتسمناه أنا وعدي ، [ ص: 20 ] فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره .

                                                                      قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت إلى قوله : أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي .

                                                                      قال الترمذي : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح .

                                                                      وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه كما أخرجه المؤلف سواء .

                                                                      قال الحافظ المنذري : وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، وأخرجه البخاري في صحيحه فقال وقال لي علي بن عبد الله يعني المديني فذكره ، وهذه عادته في ما لم يكن على شرطه ، وقد تكلم علي بن المديني على هذا الحديث وقال : لا أعرف ابن أبي القاسم ، وقال وهو حديث حسن . هذا آخر كلامه وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم ، قال يحيى بن معين ثقة قد كتبت عنه . انتهى .




                                                                      الخدمات العلمية