الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني ، فإنه قال في كتابه: "إيثار الحق" في (بحث الوعد والوعيد) ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول، إما على جهة الجمع - ولا شك في جوازه وصحته وحسنه - والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح، فإن تعذر الجمع فالترجيح، فإن وضح عمل به، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36].

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن بعد الانتصاف منه للمظلوم [ ص: 1471 ] والقطع على أنه فاسق ملعون، واجب قتله والبراءة منه، والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها، كما قال تعالى على ما أراد، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في "العواصم" لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول؟ والله سبحانه أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48] وسائر آيات الرجاء وأحاديثه - قال بالأول، ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن بقطع الرجاء - كما أوضحته في "العواصم" - رجح وعيد القاتل، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا إليه ضرورة - رجح الوقف، والله عند لسان كل قائل ونيته، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي، متى كان أهل الصغائر من المسلمين، ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى، وذلك باب واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين، ولم ينكرها أحد، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم، وفي "العواصم" من ذلك عن علي - عليه السلام - بضعة عشر أثرا، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد، على أن الخلف [ ص: 1472 ] عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه، وأجمعوا على أنه يسمى عفوا، كما قال كعب بن زهير .


                                                                                                                                                                                                                                      أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول



                                                                                                                                                                                                                                      وإنما اختلفوا - مع تسميته عفوا - هل يسمى خلفا أم لا؟ ومن منع من ذلك منع صحة النقل له لغة، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية