الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وكان غيورا من غير إفراط ; ولذا قال رحمه الله تعالى :

مطلب : في الغيرة على النساء وبيان أنواعها : ولا تكثر الإنكار ترم بتهمة ولا ترفعن السوط عن كل معتد ( ولا تكثر الإنكار ) عليها فإنك تقوي العين عليها فإن فعلت ( ترم ) [ ص: 400 ] زوجتك بسبب كثرة إنكارك عليها ( بتهمة ) في نفسها .

فيقول الفساق : وأهل الفجور لولا أنه يعلم منها المكروه لما أكثر من إنكاره عليها .

والتهمة مأخوذة من الوهم ، يقال اتهمه بكذا اتهاما ، واتهمه كافتعله وأوهمه أدخل عليه التهمة أي ما يتهم عليه فاتهم هو فهو متهم وتهيم كما في القاموس .

وفي الفروع قال ابن عبد البر : قال سليمان ، قلت : والمحفوظ في التواريخ وتراجم الأنبياء قال داود لابنه سليمان عليهما السلام : يا بني لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة فترم بالشر من أجلك وإن كانت بريئة .

قلت : وحدثني شيخنا الشيخ مصطفى اللبدي رحمه الله تعالى عن رجل أنه كان كثير الغيرة ، فكان لا يدع زوجته تغيب عن عينه ، فإذا ذهبت إلى الحمام جلس على باب الحمام حتى تخرج فيذهبا جميعا ، فضجرت منه وتبرمت وقالت : هذا أمر يشق علي وأنت فضحتني ، فقال لها لا تطيب نفسي إلا ما دمت على هذه الحالة ، فحملها ذلك على أن زنت .

قال لي شيخنا : نظرت إلى فتى عابر سبيل فقالت له من طاقة إذا أذن الظهر فكن بالباب ، فقال أفعل ، فلما كان قبيل الأذان جلست تعجن وجلس إلى جنبها ، فلما صرخ المؤذن قالت لزوجها فك تكة لباسي فقد زحمني البول ففعل ومسكت التكة بأسنانها ، وكان بيت الخلاء بباب الدار فعمدت إليه ففتحت الباب فوجدت الفتى فمكنته من نفسها ثم مسحت ذلك في منديل كان معها ، وعمدت إلى عجينها ورمت بالمنديل إلى زوجها ، فقال لها : ما هذا ؟ قالت حملني عليه ما أنت عليه من فضيحتي ، وجعلك هذا ديدنا ، ووالله ما هذا من أربي ولكن أنت الذي حملتني عليه ، فإن تركت سيرتك تركت أنا ، وإلا فلا ، فتركا جميعا .

هكذا قال لي رحمه الله . وحكى لي من هذا الباب حكايات عجيبة وذكر أنها بلغته عن ثقات والله أعلم . والمحمود من الغيرة صون المرأة عن اختلاطها بالرجال . وقد ذكر الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه آداب النساء عن سعيد بن المسيب { أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لفاطمة عليها السلام [ ص: 401 ] ما خير النساء ؟ قالت أن لا يرين الرجال ولا يرونهن فقال علي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنما فاطمة بضعة مني } .

قال ابن الجوزي : قلت قد يشكل هذا على من لا يعرفه فيقول : الرجل إذا رأى المرأة خيف عليه أن يفتتن فما بال المرأة ؟ والجواب أن النساء شقائق الرجال فكما أن المرأة تعجب الرجل ، فكذلك الرجل يعجب المرأة ، وتشتهيه كما يشتهيها ، ولهذا تنفر من الشيخ كما ينفر الرجل من العجوز .

{ ولما دخل ابن أم مكتوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة أمرهما بالقيام ، فقالتا : إنه أعمى ، فقال صلى الله عليه وسلم فأنتما عمياوان } .

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت } . قال الترمذي : معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان } .

والحمو بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم وبإثبات الواو أيضا وبالهمزة أيضا هو أبو الزوج ومن أدلى به كالأخ والعم وابن العم ونحوهم ، وهو المراد هنا . وكذا فسره الليث بن سعد رضي الله عنه وغيره . وأبو المرأة أيضا ، ومن أدلى به . وقيل : بل هو قريب الزوج فقط وقيل قريب الزوجة فقط . قال أبو عبيد في معناه : يعني فليمت ولا يفعلن ذلك . فإذا كان هذا رأيه في أب الزوج وهو محرم ، فكيف بالغريب ، انتهى .

وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم } . وفي الطبراني عنه مرفوعا { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم } .

[ ص: 402 ] وقال صلى الله عليه وسلم { أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها ، وما بطن } وأنشد في الفروع

    لا يأمنن على النساء أخ أخا
ما في الرجال على النساء     أمين
إن الأمين وإن تحفظ جهده     لا بد أن بنظرة سيخون

قال الإمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين بعد أن ذكر أنواعا من الغيرة منها المحمود والمذموم : وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع : غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره ، وأن يأنس بسواه ، وغيرته على حرمته أن يتطلع عليها غيره .

فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة وما عداها ، فإما من خدع الشيطان ، وإما بلوى من الله كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية