الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا ابتاع شاة بشرط أن تحلب كل يوم خمسة أرطال . ففيه وجهان بناء على القولين فيمن باع شاة وشرط حملها ( أحدهما ) لا يصح ; لأنه شرط مجهول فلم يصح ( والثاني ) أنه يصح ; لأنه يعلم بالعادة فصح شرطه ، فعلى هذا إذا لم تحلب المشروط فهو بالخيار بين الإمساك والرد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذه المسألة جزم الرافعي رحمه الله في باب البيوع المنهي عنها فيها بعدم صحة البيع ، وصرح في الروضة بأنه يبطل البيع قطعا ; لأن ذلك لا ينضبط فصار كما لو شرط في العبد أن يكتب كل يوم عشر ورقات ولم يتعرض الرافعي للمسألة في باب التصرية ، وابن الصباغ ذكر المسألة هنا وجزم فيها بالبطلان وكذلك صاحب التتمة قبل هذا الباب صرح وجزم بأن العقد فاسد ، وقال مع ذلك : إنه إذا شرط أنها لبون فإن كانت تدر لبنا - وإن قل - فلا خيار له ، وإن لم يكن لها لبن أصلا فله الخيار ، وكذلك قال غيره ، ونقلوا عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقول بالبطلان في هذه أيضا ولو شرط أنها غزيرة اللبن فتبين غزارته فله الرد ، قالهالروياني .

                                      [ ص: 280 ] وكلتا المسألتين لا إشكال فيهما بخلاف مسألة الكتاب ، وصرح صاحب العدة حكاية الوجهين في مسألة الكتاب كما حكاهما المصنف رحمه الله حرفا بحرف ، ونقل بعض المصنفين مسألة الكتاب وحكاية الوجهين فيها عن التتمة ، ولم أرهما فيها بل الذي رأيت فيها البطلان والمصنف المذكور هو يعقوب بن أبي عصرون وذلك وهو منه ، ولعله جاء يكتب المهذب كتب التتمة . وقال الروياني في البحر : لو اشترى شاة على أنها تحلب كل يوم كذا وكذا ، قال أصحابنا : لا يصح قولا واحدا . قال : وقيل : فيه وجه أنه يصح ، وقال ابن أبي عصرون في الانتصار : إنه لا يصح البيع على أصح القولين ، فيحتمل أن يكون تابعا للمصنف في حكاية الخلاف في المسألة وأطلق القولين على الوجهين ويحتمل أن يكون عنده نقل خارج ، وممن حكى الخلاف أيضا في هذا الباب العمراني ، ويحتمل أن يكون تابعا للمصنف ، وكذلك حكاه فيما إذا شرط أن الشاة تضع لرأس الشهر مثلا ، والمشهور في المسألتين القطع بالفساد ولم أر الخلاف إلا في كلام المصنف والروياني وصاحب العدة أيضا . على أن المصنف رحمه الله وحده كاف في النقل ، فهو الثقة الأمين ، ولا يستبعد ذلك من وجهة المعنى ، فإن ذلك قد يعلم بالعادة فإن الشاة التي خبرها البائع وجربها دائما وهي تدر كل يوم مقدارا معلوما أو أكثر منه ، فهذا العقد الذي جرب وجوده منها في جميع الأيام يغلب على الظن دوامه ، أما وضع الحمل لرأس الشهر المنقول عن العمراني فذلك بعيد إلا على إرادة التقريب الكثير ، نعم ههنا كلامان : ( أحدهما ) أن الفرق ظاهر بين اشتراط قدر معلوم من اللبن ، واشتراط الحمل ، فإن اشتراط كونها حاملا نظيره اشتراط مقدار من اللبن ، ينبغي أن يكون كاشتراط مقدار أو وصف في الحمل ، وذلك لا يمكن تصحيحه ; لأنه لا يمكن العلم به . واعلم أن ههنا ثلاث مراتب : ( إحداها ) يشترط مقدار أو وصف في الحمل وهذا لا يصح قطعا ; لأنه لا سبيل إلى علمه ولا ظنه . ( الثانية ) اشتراط أصل الحمل واللبن ، وهذا يصح على الأصح ; لأنه معلوم موجود ، عليه أمارات ظاهرة . [ ص: 281 ] الثالثة ) اشتراط مقدار من اللبن ، فهذا قدر يقوم عليه أمارة لعادة متقدمة ونحوها ، ومن هذا الوجه أشبه الحمل ويفارقه من جهة أنه متعلق بأمر مستقبل يخرم كثيرا فلذلك جرى التردد فيه . ( الثاني ) أن بناء المصنفين الوجهين على القولين في اشتراط الحبل ، يقتضي أن يكون الصحيح صحة الشرط ههنا ; لأن الشرط صحة اشتراط الحبل ، لكن ابن أبي عصرون ممن وافق المصنف رحمه الله على حكاية الخلاف وصحح البطلان وأكثر الأصحاب قطعوا به والفرق ما قدمته وجعلته من رتبة منحطة غير رتبة أصل الحمل واللبن ، والله أعلم .

                                      ( التفريع ) إذا قلنا بالصحة في ذلك فأخلف فله الخيار بين الإمساك والرد كما قال المصنف ، كالمصراة ، بل أولى من حيث المعنى ; لأن هذا بشرط صريح ، وذاك بما يقوم مقامه من التغرير ، ومقتضى إلحاقها بالمصراة أنه إن حصل الخلف قبل الثلاث يجرى فيها الخلاف المذكور في المصراة في أنه يمتد الخيار إلى ثلاثة أيام ، أو يكون على الفور أو لا يثبت إلا عند انقضاء الثلاث على الأوجه السابقة فلو ظهر الخلف بعد الثلاث فيكون على الفور كالمصراة ، ولا يأتي ههنا قول أبي حامد : إنه لا يثبت الخيار بعد الثلاث ; لأن هناك مأخذه أن الخيار ثابت بالشرع ، وههنا ثابت بالشرط وأيضا الخيار في التصرية خيار عيب على قول كما تقدم ، وأما هنا فخيار خلف ليس إلا . نعم لو ظهر نقص اللبن ههنا بعد مدة فإن كان ذلك بطرآن حادث يقتضي ذلك فلا إشكال في أنه لا يثبت الخيار ; لأن ذلك غير لازم للبائع ; لأن سببه ما حدث في يد المشتري ، وإن لم يظهر حاله بحال نقص اللبن عليها فيحتمل أن يقال : إنه لا أثر للنقص أيضا ; لأنه لما دام اللبن وثبت على مقتضى الشرط حصل الوفاء بمقتضى الشرط . وعلم بذلك مزاج الحيوان ، والنقص بعد ذلك بمدة طويلة محمول على تغير طرأ ، وكذلك في المصراة لدوام اللبن مدة ، ثم حصل نقص لم يتبين بذلك وجود التصرية . بل ذلك محمول على نقص حادث ، وإنما يبقى ثبوت الخيار حينئذ إذا اعترف البائع أو قامت بينة أنه كان قد صراها وهذا الاحتمال متعين . [ ص: 282 ] وأما مقدار المدة فيحتمل أن يقال : إنه إذا حلبها ثلاثة أيام واللبن على حاله لم يتغير ، فتغيره بعد ذلك لا يؤثر . وتكون الثلاثة ضابطا لذلك لاعتبار الشارع إياها في هذا الباب . ويحتمل أن لا يضبط بمدة معينة بل بما يظهر من شاهد الحال ودلالته على أن النقص لأمر أصلي أو طارئ . والله سبحانه أعلم .




                                      الخدمات العلمية