الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4668 4669 [ ص: 303 ] ص: فقد ثبث بما ذكرنا أن لا حجة في شيء من ذلك لمن يوجب اللعان بالحمل، فإن قال قائل: فإن في قول رسول الله -عليه السلام-: "إن جاءت به كذا فهو لزوجها إن جاءت به كذا فهو لفلان؛ دليلا على أن الحمل هو المقصود إليه بالقذف واللعان، فجوابنا له في ذلك أن اللعان لو كان بالحمل إذن فكان منتفيا في الزوج غير لاحق به أشبهه أو لم يشبهه، ألا ترى أنها لو كانت وضعته قبل أن يقذفها فنفى ولدها وكان أشبه الناس به أنه يلاعن بينهما ويفرق بينهما ويلزم الولد أمه، ولا يلحق بالملاعن لشبهه به، فلما كان الشبه لا يجب به ثبوت النسب ولا يجب بعدمه انتفاء النسب وكان في الحديث الذي ذكرنا أن رسول الله -عليه السلام- قال: "إن جاءت به كذا فهو للذي لاعنها" دل ذلك على أنه لم يكن باللعان نافيا له؛ لأنه لو كان نافيا له، إذا لما كان شبهه به دليلا على أنه منه، ولا بعد شبهه إياه دليل على أنه من غيره.

                                                وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة: "أن أعرابيا أتى النبي -عليه السلام- فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، وإني أنكرته، فقال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ ؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله إنه عرق نزعها، . قال: فلعل هذا عرق نزعه". .

                                                حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، وابن أبي ذئب ، وسفيان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

                                                فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يرخص له من نفيه لبعد شبهه منه، وكان الشبه غير دليل على شيء ثبت أن جعل النبي -عليه السلام- ولد الملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه دليل على أن اللعان لم يكن نفاه منه، فقد ثبت بما ذكرنا فساد ما احتج به الذين [ ص: 304 ] يرون اللعان بالحمل، وفي ذلك حجة أخرى وهي أن في حديث سهل بن سعد، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "انظروها فإن جاءت به كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها".

                                                فكان ذلك القول من رسول الله -عليه السلام- على الظن لا على اليقين، وذلك فمما دل أيضا أنه لم يكن جرى منه في الحمل حكم أصلا، فثبت بذلك فساد قول من ذهب إلى اللعان بالحمل، وإنما احتججنا به لمن ذهب إلى خلافه في أول هذا الباب ممن أبى اللعان بالحمل، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول أبي يوسف في المشهور.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فقد ثبت بما ذكرنا من هذه الأحاديث أن لا حجة في شيء منها لأهل المقالة الأولى الذين أوجبوا اللعان بالحمل.

                                                قوله: "فإن قال قائل" سؤال يرد على قوله أن لا حجة في شيء من ذلك، وهو جواب ظاهر أن قوله دليلا على أن الحمل اسم إن في قوله: فإن في قول رسول الله -عليه السلام-.

                                                قوله: "ولا بعد شبهه إياه" بضم الباء وسكون العين بمعنى ضد القرب.

                                                قوله: "وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي" إنما ذكره تأكيدا للحجة.

                                                قوله: "إن الشبه غير دليل على شيء إذ لو كان دليلا على شيء كان يرخص للأعرابي أن ينفي ولده منه" فلما لم يرخص له بذلك مع بعد شبه الابن إياه دل على أنه غير دليل على شيء، ودل أيضا أن جعل النبي -عليه السلام- ولد الملاعنة من زوجها إن جاءت به على شبهه كان دليلا على أن اللعان لم يكن نافيا له منه، فإذا كان كذلك ثبت فساد من يرى اللعان بالحمل.

                                                فإن قيل: كيف ألحق النبي -عليه السلام- الولد بالملاعنة لما لاعن بينها وبين هلال بن أمية؟ فلو لم يكن اللعان بالحمل صحيحا لما نفى نسبه منه؟

                                                قلت: قد مر أن هلالا لم يقذفها بالحمل بل بصريح الزنا وذكر الحمل، وبه نقول أن من قال لامرأته زنيت وأنت حامل يلاعن؛ لأنه لم يعلق القذف بالشرط، ولأنه -عليه السلام- علم من طريق الوحي أن هناك ولدا؛ ألا ترى أنه قال: إن جاء على صفة [ ص: 305 ] كذا فهو لكذا، وإن جاء على صفة كذا فهو لكذا، ولا يعلم ذلك إلا بالوحي ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك فلا ننفي الولد.

                                                فإن قيل: ذكر البيهقي حديث سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد، أخبرني عبد الرحمن ، عن القاسم بن محمد ، عن ابن عباس: "ذكر المتلاعنان عند رسول الله -عليه السلام-، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله -عليه السلام- فأخبر به بالذي وجد على امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي وجد عند أهله آدم خدلا كثير اللحم جعدا قططا، فقال رسول الله -عليه السلام-: اللهم بين، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله -عليه السلام-، فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال رسول الله -عليه السلام-: لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه، فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام"، ثم قال البيهقي: هذه الرواية توهم أنه لاعن بينهما بعد الوضع، قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى .

                                                وأخرجه مسلم عن محمد بن رمح وعيسى بن حماد المصريين، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد .

                                                وقول البيهقي: "هذه الرواية توهم" ليس كذلك؛ بل هي صريحة فيه، فإن كان اللعان فيه بالقذف ولا خلاف فيه، وإن كان بالحمل فبعد أن وضع وباتت حقيقة؛ فلا حجة فيه، وقال الطحاوي: ومذهب أبي حنيفة أنه إذا نفى حملها لا يلاعن؛ لأنه يجوز أن يكون حملا كما ذكرنا فيما مضى، ولهذا لو كانت له أمة حامل فقال لعبده: إذا كانت أمتي حاملا فأنت حر، فمات أبو العبد قبل أن تضع، لا يرثه العبد في قول جميعهم، فقد لا يكون حملا فلا يستحق العبد، وإنما نفى النبي -عليه السلام- الولد لأنه علم بالوحي وجوده؛ ولهذا قال: إن جاءت به كذا فهو لفلان ... الحديث.

                                                [ ص: 306 ] فإن قيل: أوجب الله النفقة للمطلقة الحامل بقوله تعالى: وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فكما ينفق عليها ما يغذي به ولدها قبل أن يضمه فكذا اللعان.

                                                قلت: النفقة عليها بسبب العدة، إذ لو كانت للحمل لسقطت إذا كان للحمل مال بإرث أو غيره، ولو أوصى للحمل بمال لا ينفق على المطلقة من ذلك المال، ولو كانت المطلقة آيسة من الحمل تجب النفقة.

                                                وقوله تعالى: حتى يضعن حملهن غاية لوجوب النفقة يقضي به وجوبها عليه، وبعد الوضع يعلم حقيقة أنها كانت حاملا.

                                                وذكر ابن رشد في "القواعد" وضعا آخر وهو: أن اللعان إذا مضى لا يمكن رده والنفقة يمكن ردها.

                                                وعن مالك: لا نفقة للمطلقة الحامل حتى تضع فيقضى لها بنفقة ما مضى، وهو قياس القول بأن اللعان لا يكون إلا بعد وضعه، إلا أنه مخالف لظاهر قوله تعالى: وإن كن أولات حمل الآية.

                                                فإن قيل: قضاؤه -عليه السلام- في دية شبه العمد بالخلفات التي في بطونها أولادها دليل على أن الحمل يدرك.

                                                قلنا: هن حوامل بغلبة الظن ظاهرا لا تحقيقا، فإن تبين ذلك الظاهر بوضعهن مضى الأمر وإلا ردهن وطالب بالحوامل، ولا يمكن ذلك في اللعان إذا مضى.

                                                وقال الخطابي: وإنما ترد الجارية بعيب الحمل إذا قالت النساء: هي حبلى؛ لأن الرد بالعيب يثبت بالشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة، والحد لا يجوز إثباته بالشبهة.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- من طريقين صحيحين رجالهما كلهم من رجال "الصحيحين":

                                                [ ص: 307 ] الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة .

                                                الثاني: عن يونس أيضا، عن عبد الله بن وهب أيضا، عن مالك بن أنس ومحمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب وسفيان الثوري؛ ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة .

                                                وهذا الحديث أخرجه الجماعة:

                                                فقال البخاري : حدثنا يحيى بن قزعة، ثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة: "أن رجلا أتى النبي -عليه السلام- فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود. فقال: هل لك من إبل، قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرقه".

                                                وقال مسلم : حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -واللفظ لحرملة- قالا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

                                                وقال أبو داود : نا ابن أبي خلف، قال: نا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة، قال: "جاء رجل إلى النبي -عليه السلام- من بني فزارة، فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا، قال: فما تراه؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق".

                                                [ ص: 308 ] وقال الترمذي : نا عبد الجبار بن العلاء العطار وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: ثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة، قال: "جاء رجل من بني فزارة إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال النبي -عليه السلام-: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم، إن فيها لورقا، قال: أنى أتاها ذلك؟ قال: لعل عرقا نزعها. قال: فهذا لعل عرقا نزعه".

                                                وقال النسائي : أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه.

                                                وقال ابن ماجه : نا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "إن أعرابيا" وفي رواية البخاري : "أن رجلا"، وفي رواية أبي داود والترمذي: "رجل من بني فزارة" والكل واحد، وهو ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني بن سعيد في كتاب "الغوامض"، وقال فيه: ولد له مولود أسود من امرأة من بني عجل، وقال فيه أيضا: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرني أنه كان للمرأة جدة سوداء، ذكره المنذري، وقال إسناده غريب.

                                                قلت: رواه أبو موسى المديني في كتابه "المستفاد بالنظر والكتابة" من طريق: عبد الغني بن سعيد، نا أبو إسحاق بن إبراهيم بن عمر الدمشقي، أبنا القاسم بن عيسى العصار، ثنا محمد بن أحمد بن مطهر، حدثني يحيى بن الغمر -وكان زوج بنت مطر بن العلاء- قال: أخبرني جدك، قال سمعته يحدث عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة: "أن مدلوكا حدثهم أن ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة [ ص: 309 ] له من بني عجل، فأوجس لذلك، فشكا إلى رسول الله -عليه السلام- فقال: هل لك من إبل، قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: فيها الأحمر والأسود وغير ذلك، قال: فأنى ذلك؟ قال: عرق نزع، قال: وهذا عرقه نزع، قال: فقدم عجائز من بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء". وقال أبو موسى: هذا إسناد عجيب، والحديث صحيح من رواية أبي هريرة، ولم يسم فيه الرجل، وقال امرأة من بني فزارة.

                                                قوله: "قال: حمر" بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر.

                                                قوله: "إن فيها لورقا" بضم الواو وسكون الراء جمع أورق.

                                                والأورق المغبر الذي ليس بناصع البياض كون الرماد، ومنه سميت الحمامة ورقاء، وقال ابن الأثير: الأورق الأسمر، يقال: جمل أورق وناقة ورقاء، واللام فيه مفتوحة لأنها للتأكيد.

                                                قوله: "فأنى ترى ذلك" أي من أين ترى ذلك.

                                                قوله: "عرق نزعه" أي أصل أشبهه وأظهر لونه.

                                                والعرق هنا الأصل من النسب، شبه بعرق الثمرة، يقال: معرق في النسب وفي اللؤم والكرم، وأصل النزع الجذب، كأنه جذبه لشبهه به، يقال منه: نزع ينزع، وهو ما شذ عن الأصل مما جاء على فعل يفعل، فيما عينه من حروف الحلق أو لامه وأصله المطرد فعل يفعل، يقال: نزع الولد لأبيه ونزع إليه ونزعه أبوه، ونزع إليه، كله وارد.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: احتج به أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حد في التعريض ولا لعان؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يلاعن على هذا الرجل المعرض حدا، وقال مالك: يجب الحد بالتعريض.

                                                [ ص: 310 ] الثاني: فيه دليل قاطع على صحة القياس والاعتبار بنظره من طريق واحدة قوية، وهو اعتبار الشبه الخلقي.

                                                الثالث: قال يحيى: الذي فيه أن الولد يلحق الزوج وإن اختلفت ألوانهما، ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون.

                                                الرابع: فيه تقديم حكم الفراش على اعتبار الشبه.

                                                الخامس: فيه الزجر عن تحقيق ظن السوء، والله أعلم.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية