الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5555 5556 5557 5558 5559 ص: ويقال للذي ذهب إلى العمل بما روي في المصراة ما قد ذكرناه في أول هذا الباب: قد روي عن رسول الله -عليه السلام- أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم ، عن ابن أبي ذئب (ح).

                                                وحدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف ، عن عروة ، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الزنجي بن خالد ، سمعته يقول: زعم لنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رجلا اشترى عبدا فاستغله، ثم رأى به عيبا فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرده بالعيب، فقال: يا رسول الله إنه قد استغله، فقال له: الغلة بالضمان".

                                                حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا مطرف بن عبد الله ، قال: ثنا الزنجي بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله.

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، قال: ثنا مسلم بن خالد ... ، فذكر بإسناد مثله.

                                                [ ص: 447 ] فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول، وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها، ثم أصاب بها عيبا غير التحصيل أنه يردها، ويكون اللبن له، وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته، ردها على البائع وكان الولد له، وكان ذلك عندك من الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان، فليس يخلو الصاع الذي توجبه على مشتري المصراة إذا ردها على البائع بالتصرية أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعض في ضرعها في وقت وقوع البيع، وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع، أو يكون عوضا من اللبن الذي كان في ضرعها في وقت البيع خاصة، فإن كان عوضا منهما فقد نقضت بذلك أصلك الذي جعلت به الولد واللبن للمشتري بعد الرد بالعيب؛ لأنك جعلت حكمهما حكم الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان.

                                                وإن كان ذلك الصاع عوضا عما كان في ضرعها في وقت وقوع البيع خاصة، والباقي سالم للمشتري لأنه من الخراج، فقد جعلت للبائع صاعا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز في قولك ولا في قول غيرك، فعلى أي الوجهين كان هذا المعنى عليه عندك؟! فأنت به تارك أصلا من أصولك، وقد كنت بالقول بنسخ هذا الحكم في المصراة أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن في حكم الخراج، وغيرك لا يجعله كذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه إشارة إلى بيان فساد قول من يذهب إلى العمل بحديث المصراة الذي هو منسوخ بالوجوه التي ذكرناها، وأن القائلين به تاركون لأصلهم الذي يذهبون إليه، ومتناقضون في كلامهم، والمراد من هؤلاء هم الشافعية ومن تبعهم في هذا القول، والمراد من الخطابات في قوله: "وزعمت أنت" وقوله: "فقد نقضت بذلك أصلك"، وقوله: "الذي جعلت به الولد"، وقوله: "جعلت حكمهما" وقوله: "فقد جعلت" وقوله: "وقولك ولا في قول غيرك" وقوله: "عندك"، وقوله: "فأنت به تارك أصلا من أصولك" وقوله: "وقد كنت"، وقوله: "أولى من غيرك؛ لأنك أنت تجعل اللبن"، وقوله: "وغيرك". [ ص: 448 ] بيان الفساد المذكور أن النبي -عليه السلام- قد روي عنه أنه قال: "الخراج بالضمان"، وفي رواية: "الغلة بالضمان" يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا، وذلك أن تشتريه فتستغله زمانا ثم تعثر منه على عيب لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، ومعنى قوله: "الغلة بالضمان" مثل معنى قوله: "الخراج بالضمان"، والغلة الدخل الذي يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والنتاج، والباء في قوله "بالضمان" للسببية، ومتعلقها محذوف تقديره: الخراج مستحق بسبب الضمان، والغلة مستحقة بسبب الضمان، ومحل الباء رفع على الخبرية، وقوله "الخراج" مبتدأ وكذا قوله "الغلة".

                                                ثم إن هؤلاء قد زعموا أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل والتصرية أنه يردها ويكون اللبن له، وكذلك لو اشترى جارية مثلا فولدت عنده، ثم ردها على البائع لعيب وجد بها، يكون الولد له.

                                                قالوا: لأن ذلك من الخراج الذي جعله النبي -عليه السلام- للمشتري بالضمان، فإذا كان الأمر كذلك فالصاع من التمر الذي يوجبه هؤلاء على مشتري المصراة إذا ردها على بائعها بسبب التصرية والتحفيل، لا يخلو إما أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعضه في ضرعها وقت البيع وحدث بعض في ضرعها بعد البيع.

                                                وإما أن يكون عوضا عن اللبن الذي كان في ضرعها وقت وقوع البيع خاصة.

                                                فإن أرادوا الوجه الأول فقد ناقضوا أصلهم الذي جعلوا به اللبن والولد للمشتري بعد الرد بالعيب في الصورتين اللتين ذكرناهما، وذلك لأنهم جعلوا حكمهما كحكم الخراج الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشتري بالضمان.

                                                [ ص: 449 ] وإن أرادوا الوجه الثاني، فقد جعلوا للبائع صاعا دينا بلبن دين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم فأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلا من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسخ الحكم في المصراة؛ لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج، وغيرهم لا يجعلون كذلك؛ فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه.

                                                فإن قيل: لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج، لأن اللبن ليس بغلة وإنما كان محفلا فيها، فلزم رده.

                                                قلت: هذا ممنوع؛ لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل على ما ذكرنا، وهو أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضا يلزمهم على هذا أن يقولوا: برد عوض اللبن إذا رد المصراة بعيب آخر غير التصرية؛ ولم يقولوا به.

                                                فإن قيل: هذا حكم خاص في نفسه، وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضي على العام.

                                                قلت: هذا زعمك وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله -عليه السلام-: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على الخاص الوارد بقوله: "ليس في الخضراوات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وأمثال ذلك كثيرة.

                                                ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- من خمس طرق:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني ، عن مخلد -بفتح الميم وسكون الخاء- ابن خفاف -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء- ابن إيماء الغفاري ، عن عروة بن الزبير بن العوام ، عن عائشة -رضي الله عنها-.

                                                [ ص: 450 ] وأخرجه أبو داود : ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا ابن أبي ذئب ، عن مخلد بن خفاف ، عن عروة ، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان".

                                                الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي دواد ، عن ابن أبي ذئب ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الترمذي : نا محمد بن [المثنى] قال: نا عثمان بن عمرو وأبو عامر العقدي ، عن ابن أبي ذئب ، عن مخلد بن خفاف ، عن عروة ، عن عائشة: "أن رسول الله -عليه السلام- قضى أن الخراج بالضمان".

                                                وأخرجه النسائي : عن إسحاق بن إبراهيم ، عن عيسى بن يونس ووكيع، كلاهما عن ابن أبي ذئب ، عن مخلد بن خفاف ... إلى آخره نحوه.

                                                وهذان الطريقان حسنان جيدان.

                                                فإن قيل: كيف تقول هذا، وقد قال أبو حاتم: مخلد بن خفاف روى عن عروة عن عائشة: حديث "الخراج بالضمان" روى عنه ابن أبي ذئب ولم يرو عنه غيره. وليس هذا إسنادا تقوم بمثله الحجة. وقال ابن عدي: لا يعرف له غير هذا الحديث. وذكره ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء"، وقال: قال الأزدي: ضعيف. وقال البخاري : هذا حديث منكر، ولا أعلم لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث؟!

                                                قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الترمذي: بعد أن أخرج هذا الحديث عنه: هذا حديث حسن، وأشار الطحاوي أيضا إلى تحسينه وقبوله، بقوله: "فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول".

                                                [ ص: 451 ] الثالث: عن محمد بن خزيمة ، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري ، عن مسلم -المعروف بالزنجي- ابن خالد بن قرقرة المكي شيخ الشافعي ، عن هشام بن عروة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البيهقي : من حديث الزنجي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلا اشترى غلاما في زمن النبي -عليه السلام- وفيه عيب لم يعلم به، فاستغله ثم علم بالعيب فرده، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمان، فقال رسول الله -عليه السلام-: الغلة بالضمان"، وفي رواية يحيى بن يحيى عن الزنجي: "الخراج بالضمان".

                                                الرابع: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج شيخ أبي داود والنسائي ، عن مطرف بن عبد الله المديني شيخ البخاري ، عن مسلم الزنجي ، عن هشام بن عروة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود : نا إبراهيم بن مروان الدمشقي، قال: ثنا أبي، قال: نا مسلم بن خالد الزنجي، قال: ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد عيبا، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- فرد عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال رسول الله -عليه السلام-: "الخراج بالضمان".

                                                الخامس: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن عبد العزيز ... إلى آخره. وأخرجه أحمد وابن ماجه والبزار كلهم من حديث الزنجي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة نحوه.

                                                [ ص: 452 ] وهذه الطرق الثلاثة ضعيفة لأن فيها مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف، وقال البخاري : هو ذاهب الحديث. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو داود ويحيى: ضعيف. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

                                                وإنما سمي زنجيا لأنه كان شديد السواد، قاله سويد بن سعيد، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: الزنجي إمام في الفقه والعلم، وكان أبيض مشربا بالحمرة، وإنما لقب بالزنجي لمحبته التمر، فقالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي؛ لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب والله أعلم.

                                                ثم إن الشافعي: استدل به أن كل ما حدث من غلة أو نتاج في ملك المشتري فهو للمشتري لا يرد من ذلك شيئا، إذا رد المبيع لأجل العيب، وبه قال مالك: إلا في النتاج خاصة؛ فإنه يرده مع الأمهات، وقال أصحابنا في الدار والدابة والعبد: له الغلة ويرد بالعيب، وفي النخل والشجر والماشية: يرجع بالأرش ولا يرد، واختلفوا في المبيع إذا كانت جارية فوطئها ثم وجد بها عيبا، فقال أصحابنا تلزمه ويرجع بأرش العيب.

                                                وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها.

                                                وقال مالك يردها إن كانت ثيبا ولا يرد معها شيئا، وإن كانت بكرا فعليه ما نقص من ثمنها، وقال الشافعي: ترد الثيب ولا شيء عليه، ولا ترد البكر ويرجع بما نقصها العيب من أجل الثمن.

                                                وقاس أصحابنا الغصب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب، ولم يجعلوا عليه رد الغلة، واحتجوا بعموم الحديث.

                                                وقال الخطابي: والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتبايعين بالتراضي، وليس الغصب بعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان، وأصله وفرعه سواء في وجوب الرد، ولفظ الحديث مبهم لأن قوله: "الخراج بالضمان" يحتمل أن يكون معناه أن يملك الخراج بضمان الأصل، ويحتمل أن يكون [ ص: 453 ] المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل، واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين، والحديث في نفسه ليس بالقوي إلا أن الأكثر استعملوه في البيوع والأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه.

                                                قلت: ذهل الخطابي عن قولهم: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقوله: "واقتضاء العموم ... " إلى آخره. غير سديد؛ لأنه يلزم أن تكون كذلك سائر الألفاظ العامة المحتملة للمعنيين أو المعاني، وليس كذلك. فافهم.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية