الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثاني: أن هذا الحديث ورد بألفاظ أخرى عن النعمان بن بشير ليس فيها الأمر بالإرجاع، وإنما فيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يشهد على جور، أو الأمر بالتسوية بين الأولاد، ونحو ذلك.

        وأجيب عنه: بأن تلك العبارات تدل أيضا على الإرجاع، واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد.

        الأمر الثالث: أن الهبة لم تتم بدليل ما جاء من رواية جابر أن بشير بن سعد أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن بنت فلان سألتني أن أنحل ابني غلاما، وقالت: أشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أله إخوة؟ قال: نعم. قال: أوكلهم أعطيته؟ قال: لا، قال: فإن هذا لا يصلح؛ فإني لا أشهد إلا على حق".

        ففي حديث جابر -رضي الله عنه- أن بشيرا ذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهب، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأولى، وحديث جابر أولى; لأنه كان كبيرا، وكان النعمان صغيرا، والكبير أحفظ وأضبط".

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: أنه لا يسلم أن الحديث يدل على ما ذكر، بل يدل على أنه لم [ ص: 60 ] يأت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن أعطى ابنه; لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أفكلهم أعطيته؟" وقول بشير: "إني نحلت ابني غلاما" وقول سعد: "تصدق علي أبي بصدقة" مما يدل على أن الأمر قد وقع، ولو كان لم يعطه لقال "أفكلهم ستعطيه" لأن الأمر ما زال أنفا.

        الثاني: أما كون النعمان كان صغيرا وجابر أسن منه، فيرده أن النعمان هو صاحب القصة، وصاحب القصة أعلم بما روي.

        الأمر الرابع: أنه ورد عن النعمان -رضي الله عنه- أنه قال: "نحلني أبي غلاما ثم مشى بي حتى أدخلني على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني نحلت ابني غلاما، فإن أذنت أن أجيزه أجزته" ثم ذكر الحديث.

        قال الطحاوي: "فدل ما ذكرنا على أنه لم تكن النحلة كملت من حين نحله إياه إلى أن أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- برده".

        ويمكن أن يجاب عنه بما يلي:

        الأول: أنه لا يسلم ما أولوا به الحديث، بل قوله: (إني نحلت ابني) يدل على أن الأمر قد وقع، وقوله: (فإن أذنت لي أن أجيزه) لعله قاله لكونه نمى إلى علمه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجيز هذا النوع من العطايا، وما لا يجيزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العقود غير معتبر؛ فلذلك جاء مستفسرا.

        الثاني: وعلى فرض صحة تأويل الحديث بما أولوه به، فإن هذا الحديث من رواية أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، وهذه الرواية فيها إشكالان:

        الأول: أنه يحتمل أن يكون مما رواه أبو اليمان عن شعيب بطريق [ ص: 61 ] الكتاب لا بطريق المشافهة، وقد روى عنه أحاديث بطريق الكتاب، وقال فيها: أخبرنا، اعتمادا منه على إجازة شعيب له بالرواية عنه.

        الثاني: أن شعيبا خالف الحفاظ الرواة عن الزهري عند البخاري ومسلم وغيرهما، حيث لم يرووا هذه الرواية، بل الذي رووه هو أن النحلة كانت قد وقعت من بشير قبل مجيئه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

        الأمر الخامس: أن النعمان لم يكن صغيرا، حيث لم تنقل ذلك الكتب المشاهير، فيحتمل أنه كان صغيرا، ووهب له أبوه، وعلق الهبة على رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ويحتمل أنه كان كبيرا بالغا، ولم يقبض الهبة من أبيه، والموهوب له إذا لم يقبض الهبة يصح لمن وهبه أن يرجع فيما وهبه له.

        وأجيب عنه: بأن كون النعمان كان صغيرا لم تنقلها المشاهير غير مسلم به، بل إن أغلب طرق هذا الحديث فيها ما يشير إلى أن النعمان كان صغيرا، ففي صحيح مسلم يقول النعمان في رواية: (وأنا يومئذ غلام).

        وفي رواية أخرى: (انطلق بي أبي يحملني) وكل ذلك يدل على أنه كان صغيرا.

        وإذا ثبت أن النعمان كان صغيرا وقت النحلة سقط الاحتمال الثاني أنه كان كبيرا، وما بني عليه. [ ص: 62 ]

        الأمر السادس: أن سبب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لبشير أن يرد العطية أنه قد أعطى النعمان جميع ماله، ولم يترك شيئا لبقية الورثة.

        وأجيب عنه: بأن هذا من أبعد التأويلات; لأن الكثير من روايات هذا الحديث صريحة في البعضية.

        وقد مضى بيان ذلك مفصلا في هبة الأب لولده.

        الأمر السابع: على فرض أنه كان صغيرا، فيحتمل أن بشيرا فوض ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليهبه له إن كان صوابا، ومعنى "اردده" أي: أمسك مالك، وارجع إلى رحلك.

        وأجيب عنه: بأن هذا تكلف يأباه سياق سائر ألفاظ الحديث.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية