الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      خلافة الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه .

                                                                                      قال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وأبو بكر بالسنح ، فقال عمر : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : [ ص: 21 ] والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فيقطع أيدي رجال وأرجلهم . فجاء أبو بكر الصديق فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ، وقال : بأبي أنت وأمي ، طبت حيا وميتا ، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين أبدا . ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك . فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وقال : إنك ميت وإنهم ميتون ( الزمر ) . وقال : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [ آل عمران ] الآية . فنشج الناس يبكون ، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ومنكم أمير . فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فذهب عمر يتكلم فسكته أبو بكر ، فكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ، فتكلم فأبلغ ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء . فقال الحباب بن المنذر : لا والله لا نفعل أبدا ، منا أمير ومنكم أمير . فقال أبو بكر : لا ، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء ، قريش أوسط العرب دارا ، وأعزهم أحسابا ، فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة . فقال عمر : بل نبايعك ، أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عمر بيده فبايعه ، وبايعه الناس ، فقال قائل : قتلتم سعد بن عبادة . فقال عمر : قتله الله . رواه سليمان بن بلال عنه ، وهو صحيح السند .

                                                                                      قال مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس أن عمر خطب الناس ، فقال في خطبته : وقد بلغني أن قائلا يقول : لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغتر امرؤ أن يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وليس [ ص: 22 ] منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، وإنه كان من خيرنا ، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع المهاجرون ، وتخلف علي والزبير في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقلت : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار . فانطلقنا نؤمهم ، فلقينا رجلان صالحان من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تأتوهم وأبرموا أمركم ، فقلت : والله لنأتينهم ، فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا هم مجتمعون على رجل مزمل بالثياب ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة مريض . فجلسنا ، وقام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ؛ فنحن الأنصار وكتيبة الإيمان ، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفت إليكم دافة يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر .

                                                                                      قال عمر : فلما سكت أردت أن أتكلم بمقالة قد كانت أعجبتني بين يدي أبي بكر ، فقال أبو بكر : على رسلك . وكنت أعرف منه الحد ، فكرهت أن أغضبه ، وهو كان خيرا مني وأوفق وأوقر ، ثم تكلم ، فوالله ما ترك كلمة أعجبتني إلا قد قالها وأفضل منها حتى سكت ، ثم قال : أما بعد ؛ ما ذكرتم من خير فهو فيكم معشر الأنصار ، وأنتم أهله وأفضل منه ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح . قال : فما كرهت شيئا مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم [ ص: 23 ] أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تتغير نفسي عند الموت . فقال رجل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير معشر المهاجرين . قال : وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر . فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعته الأنصار ، ونزوا على سعد بن عبادة ، فقال قائل : قتلتم سعدا . فقلت : قتل الله سعدا . قال عمر : فوالله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا أوفق من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن نحن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما بايعناها على ما لا نرضى ، وإما خالفناهم فيكون فساد .

                                                                                      رواه يونس بن يزيد ، عن الزهري بطوله ، فزاد فيه : قال عمر : " فلا يغترن امرؤ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها ، فمن بايع رجلا عن غير مشورة فإنه لا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " متفق على صحته . وقال عاصم بن بهدلة ، عن زر ، عن عبد الله ، قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير . فأتاهم عمر ، فقال : يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن أبا بكر قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس ؟ قالوا : بلى ، قال : فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ يعني في [ ص: 24 ] الصلاة ، فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر . رواه الناس ، عن زائدة ، عنه .

                                                                                      وقال يزيد بن هارون : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة ، فقال : ابسط يدك لأبايعك ، فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لعمر : ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت ، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين ؟

                                                                                      وروي نحوه عن مسلم البطين ، عن أبي البختري .

                                                                                      وقال ابن عون ، عن ابن سيرين ، قال أبو بكر لعمر : ابسط يدك نبايع لك . فقال عمر : أنت أفضل مني . فقال أبو بكر : أنت أقوى مني . قال : إن قوتي لك مع فضلك .

                                                                                      وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي اجتمعت الأنصار إلى سعد ، فأتاهم أبو بكر وجماعة ، فقال الحباب بن المنذر ، وكان بدريا ، فقال : منا أمير ومنكم أمير .

                                                                                      وقال وهيب : حدثنا دواد بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار ، فجعل منهم من يقول : يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا ، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم . قال : وتتابعت خطباء الأنصار على ذلك ، فقام زيد بن ثابت ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ، وإنما يكون الإمام من المهاجرين ، ونحن أنصاره ، كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر ، فقال : [ ص: 25 ] جزاكم الله خيرا من حي يا معشر الأنصار وثبت قائلكم ، أم والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم . ثم أخذ زيد بيد أبي بكر فقال : هذا صاحبكم فبايعوه . قال : فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فقال أبو بكر : ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعه ، ثم لم ير الزبير ، فسأل عنه حتى جاءوا به ، فقال : ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعاه .

                                                                                      روى منه أحمد في " مسنده " إلى قوله : " لما صالحناكم " عن عفان ، عن وهيب . ورواه بتمامه ثقة ، عن عفان .

                                                                                      وقال الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس : قال عمر في خطبته : وإن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا ، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها ، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فبينا نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار : اخرج يا بن الخطاب ، فخرجت ، فقال : إن الأنصار قد اجتمعوا فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون بيننا وبينهم فيه حرب ، وقال في الحديث : وتابعه المهاجرون والأنصار فنزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل : قتلتم سعدا . قال عمر : فقلت وأنا مغضب : قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر .

                                                                                      وهذا من حديث جويرية بن أسماء ، عن مالك . وروى مثله الزبير [ ص: 26 ] بن بكار ، عن ابن عيينة ، عن الزهري .

                                                                                      وقال أبو بكر الهذلي ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد ، وابن الكواء ، أن عليا رضي الله عنه ذكر مسيره وبيعة المهاجرين أبا بكر ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت فجاءة ، مرض ليالي ، يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة ، فيقول : " مروا أبا بكر بالصلاة " فأرادت امرأة من نسائه أن تصرفه إلى غيره فغضب ، وقال : إنكن صواحب يوسف ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا واختار المهاجرون والمسلمون لدنياهم من اختاره رسول الله لدينهم ، وكانت الصلاة عظم الأمر وقوام الدين .

                                                                                      وقال الوليد بن مسلم : فحدثني محمد بن حرب ، قال : حدثنا الزبيدي ، قال : حدثني الزهري ، عن أنس أنه سمع خطبة عمر الآخرة ، قال : حين جلس أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد عمر ، ثم قال : أما بعد ، فإني قلت لكم أمس مقالة ، وإنها لم تكن كما قلت ، وما وجدت في المقالة التي قلت لكم في كتاب الله ولا في عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن رجوت أنه يعيش حتى يدبرنا يقول حتى يكون رسول الله ؛ صلى الله عليه وسلم ، آخرنا فاختار الله لرسوله ما عنده على الذي عندكم ، فإن يكن رسول الله قد مات ، فإن الله قد جعل بين أظهركم كتابه الذي هدى به محمدا ، فاعتصموا به تهتدوا بما هدى به محمدا صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين ، وأنه أحق الناس بأمرهم ، فقوموا فبايعوه ، وكان طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة ، وكانت البيعة على المنبر بيعة العامة . صحيح غريب .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن سعد بن إبراهيم : حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير ، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس ، وقال : والله ما كنت [ ص: 27 ] حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، فقبل المهاجرون مقالته . وقال علي والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشاورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي .

                                                                                      وقد قيل إن عليا رضي الله عنه تمادى عن المبايعة مدة ، فقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : لما توفيت فاطمة بعد وفاة أبيها بستة أشهر اجتمع إلى علي أهل بيته ، فبعثوا إلى أبي بكر : ائتنا ، فقال عمر : لا والله لا تأتهم ، فقال أبو بكر : والله لآتينهم ، وما تخاف علي منهم ؟ فجاءهم حتى دخل عليهم ، فحمد الله ، ثم قال : إني قد عرفت رأيكم ، قد وجدتم علي في أنفسكم من هذه الصدقات التي وليت عليكم ، ووالله ما صنعت ذاك إلا أني لم أكن أريد أن أكل شيئا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أرى أثره فيه وعمله إلى غيري حتى أسلك به سبيله وأنفذه فيما جعله الله ، ووالله لأن أصلكم أحب إلي من أن أصل أهل قرابتي لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعظيم حقه . ثم تشهد علي ، وقال : يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيرا جعله الله لك أن لا تكون أهلا لما أسند إليك ، ولكنا كنا من الأمر حيث قد علمت ، فتفوت به علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، وقد رأيت أن أبايع وأدخل فيما دخل فيه الناس ، وإذا كانت العشية فصل بالناس الظهر ، واجلس على المنبر حتى آتيك فأبايعك . فلما صلى أبو بكر الظهر ركب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الذي كان من أمر علي ، وما دخل [ ص: 28 ] فيه من أمر الجماعة والبيعة ، وها هو ذا فاسمعوا منه ، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر أبا بكر وفضله وسنه ، وأنه أهل لما ساق الله إليه من الخير ، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه .

                                                                                      أخرجه البخاري من حديث عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وفيه : وكان لعلي من الناس وجه ، حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية