الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيبا ، فإن خفي منه شيء رجع فيه إلى أهل الخبرة بذلك الجنس ) .

                                      [ ص: 548 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 548 ] ( الشرح ) لما تقدمت أحكام العيب احتاج إلى تعريفه ، فعقد هذا الفصل لذلك وبيان ما هو عيب وما ليس بعيب ، ولما كانت الأمثلة لا تنحصر قدم عليها الضابط فيها ، وما ذكره من الضابط سديد ، فإن المدرك في ذلك العرف ، ولولا ذلك واقتضى العرف سلامة المبيع حتى جعل ذلك كالمشروط لما ثبت الرد ، فلذلك جعل ضابطه راجعا إلى العرف ، فما عده الناس وأهل العرف عيبا كان عيبا ، وما لا فلا ، ولكن الإحالة على العرف قد يقع فيها في بعض الأوقات إلباس ، فلأجل ذلك ضبطه غير المصنف بضابط أبين ، وأحسن شيء فيه ما أشار له الإمام رحمه الله ، ولخصه الرافعي أن يقال : ما ثبت الرد بكل ما في المعقود عليه من منقص القيمة أو العين نقصا ما يفوت به غرض صحيح بشرط أن يكون في أمثال ذلك المبيع عدمه . وأخصر من ذلك أن يقال : ما نقص القيمة أو العين نقصانا يفوت به غرض صحيح ، ويغلب على أمثاله عدمه ، وبعضهم قال : ما نقص القيمة أو العين من الخلقة التامة . قال الرافعي : فإنما اعتبرنا نقصان العين بمسألة الخصي ، يعني فإنه يرد به ، وإن لم ينقص القيمة ، لكنه نقص العين ، وإنما لم يكتف بنقص العين واشترط فوات غرض صحيح ; لأنه لو قطع من فخذه أو ساقه قطعة يسيرة لا تورث شيئا ولا يفوت غرض لا يثبت الرد قال : ولهذا قال صاحب التقريب : إن قطع من أذن الشاة ما يمنع التضحية ثبت الرد ، وإلا فلا ، وفيه احتراز أيضا عما إذا وجد العبد والجارية مختونين ، فإنه فات جزء من أصل الخلقة لكن فواته مقصود دون بقائه فلا رد به إذا كان قد اندمل . وإنما اشترط أن يكون الغالب على أمثاله عدمه ; لأن البقاء به مثلا في الإماء ينقص القيمة لكن لا رد بها ; لأنه ليس الغالب فيهن عدم الثيابة إذا كانت الأمة كبيرة في سن لا يغلب فيه ذلك . وأما الذي زاد من الخلقة التامة فاحترز عما إذا نقص زائد من أصل الخلقة كالأصبع ونحوها ، بأن قطعها البائع ولم يبق شين ثم باعها . فلا يثبت بزوالها رد . هكذا قاله صاحب التتمة وهذا فيه نظر . فإن القاضي أبا الطيب قال في ذلك : إذا حدث في يد المشتري ، وجب أن يمنع من الرد في يد عندي ، وتابعه على ذلك ابن الصباغ فإن كان [ ص: 549 ] ذلك عيبا مانعا من الرد - كما قاله أبو الطيب - وجب أن يوجب الرد إذا حصل في يد البائع وإن لم يكن عيبا موجبا للرد كما قال صاحب التتمة وجب أن لا يمنع إذا حدث في يد المشتري لا يمنع الرد . فطرد قاعدته وجل ما لا يثبت بفواته في يد البائع خيار لا يمنع الرد إذا حدث عند المشتري فحصل الخلاف بين أبي الطيب والمتولي في امتناع الرد بحدوثه . وأما ثبوت الرد بوجوده في يد البائع فيمكن أن يكون أبو الطيب يقول به ، ويجعله عيبا ويطرد قاعدته ، وحينئذ يحصل الخلاف بينهما في المسألتين ، ويمكن أن يقال : إن زوال الأصبع الزائدة ونحوها وإن لم يكن عيبا ، إلا أن ذلك الزائد إذا كان موجودا عند العقد استحقه المشتري ، وصار جزءا من المبيع المقابل بالثمن ، فلو رده المشتري بدونه لرد المبيع ناقصا عما ورد العقد عليه ، فلذلك قال القاضي أبو الطيب : إنه يمنع الرد لا بسبب أن ذلك عيب ، نعم إذا حصل زوال هذه الأصبع الزائدة ونحوها في يد البائع بعد البيع وقبل القبض مساق هذا البحث أن يثبت للمشتري الرد لزوال بعض ما شمله العقد ، وإن لم يكن عيبا . ألا ترى أنه تقدم لنا أن من اشترى عبدا كاتبا فنسي الكتابة قبل القبض أنه يثبت الخيار لفوات ما كان موجودا عند العقد وإن لم يكن عيبا . بل فوات كمال . وهذا إن لم يكن كمالا فقد تعلق به غرض وقد صار مستحقا بالعقد . لكنه تقدم عن صاحب التهذيب أنه قال بعدم ثبوت الخيار في حصول ذلك قبل القبض ، وهو الذي يشعر به كلام صاحب التتمة الذي حكيته الآن . وهو مخالف لما قلته من البحث . ولما قاله القاضي أبو الطيب ولصاحب التهذيب وصاحب التتمة أن يقولا : إن ذلك الزائد وإن كان شمله العقد إلا أنه لا غرض فيه . فزواله مع البرء لا يحصل به نقص يفوت به غرض صحيح بخلاف فوات الكتابة بالنسيان ، وعلى هذا يكون كل ما أثبت الرد على البائع منع الرد من المشتري . وإن أبقينا كلام أبي الطيب على حاله وطردناه فيما قبل القبض فكذلك يستمر هذا الضابط . [ ص: 550 ] وإن جمعنا بين ما قاله أبو الطيب بعد القبض وما قاله صاحب التهذيب قبله كما تقدمت الإشارة إليه في موانع الرد فيفصل في فوات هذه الزيادة في يد البائع بين أن تكون بعد البيع فيثبت الخيار أو قبله فلا ، إذا لم يبق بسببها نقص . ويكون كل ما يوجب الرد إذا كان البيع يمنع الرد إذا حصل عند المشتري ولا ينعكس ، فكل ما يوجب الرد إذا حدث بعد البيع وقبل القبض يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري وبالعكس ، وكل عيب مثبت للرد وليس كل مثبت للرد عيبا ، كما مثلناه في فوات صفة الكمال قبل القبض ، فليس عيبا داخلا تحت هذا الضابط إلا أنه باستحقاقه بالعقد صار فواته عيبا . وأصل هذا الضابط الذي ذكره الرافعي وأشار إليه الإمام للقاضي حسين ، فإنه قال : الحد فيه أن كل معنى ينقص العين بأصل الخلقة أو القيمة أو يفوت غرضا مقصودا شرطه ، أو فات بتدليس من جهة البائعيثبت الخيار . وما خرج من هذه الجملة فلا يثبت الخيار ، وقصد القاضي بهذا حد كل ما يثبت الرد من الأسباب الثلاثة المذكورة في هذا الباب التصرية والعيب والخلف ، والضابط الذي تقدم كفاية . وبه تعرف ما يرد على حد القاضي وقال الغزالي : العيب كل وصف مذموم اقتضى العرف سلامة المبيع عنه غالبا وقد يكون ذلك نقصان وصف أو زيادته ، وقد يكون نقصان عين كالخصي أو زيادتها كالأصبع الزائدة والخصي ، فإن زادت قيمته ولكن ما كان منه مقصودا تتعلق به مالية ، وإنما الزيادة بالجب لغرض آخر حصل به ، فلم ينقل عن نقصان وأشار الغزالي بهذا إلى أن نقصان القيمة حاصل من وجه كونه يضعف البنية ، ولكنه انجبر بزيادتها من جهة الرغبة في دخوله على الحريم عند من يجوزه فكان كذلك لعبد كانت زادت قيمته بسبب الكتابة ، ونقصت بسبب العيب دون ما زادت ، تلك الزيادة لا تخرجه عن كونه عيبا . وفي هذا الكلام محاولة أن المعتبر نقصان القيمة . ولذلك قال الشافعي في باب العيب في الرهن : والعيب الذي يكون به الخيار كل ما نقص ثمنه من شيء - قل أو كثر - حتى الأثر الذي [ ص: 551 ] لا يضر بعمله ، والفعل . فهذا النص شاهد لاعتبار القيمة ، ومراد الشافعي - والله أعلم بالثمن - القيمة . وقال قبل ذلك بأربعة أسطر : إذا كان بالرهن عيب في بدنه أو عيب في فعله ينقص ثمنه وعلم المرتهن العيب قبل الارتهان به فلا خيار له ، والرهن والبيع ثابتان . وهذا النص مثل الأول ، وقول المصنف : والعيب الذي يرد به المبيع . قد يقول قائل لو قال : الذي يرد به - كما قال في التتمة - لشمل المبيع والثمن . ( والجواب ) عن هذا أن الثمن إذا كان معيبا فحكمه حكم المبيع ، لا شك أنه هنا إنما يقصد تعريف العيب في المنع وما في حكمه ، فسواء أذكره أم تركه المراد معلوم ، ولنا عيوب أخر في غير المبيع مفسرة بغير هذا التفسير . وقال النووي رحمه الله في تهذيب اللغات : العيب ستة أقسام : عيب في المبيع ، وفي رقبة الكفارة ، والغرة ، وفي الأضحية والهدي والعقيقة . وفي أحد الزوجين ، وفي الإجارة . وحدودها مختلفة ، فالعيب المؤثر في المبيع الذي يثبت بسببه الخيار هو ما نقصت المالية أو الرغبة به أو العين ، والعيب في الكفارة ما أضر بالحمل إضرارا بينا . والعيب في الأضحية والهدي والعقيقة ما نقص به اللحم ، والعيب في النكاح ما ينفر عن الوطء ويكسر سورة التواق ، والعيب في الإجارة ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت الأجرة لا ما يظهر به تفاوت قيمة الرقبة ، لأن العقد على المنفعة ، فهذا تقريب ضبطها ، وهي مذكورة في هذه الكتب بحقائقها وفروعها وعيب الغرة في الجنين كالمبيع . هذا كلام النووي رحمه الله . ( قلت ) والعيب في الزكاة كالبيع على الأصح . وقيل : كالأضحية ، وفي الصداق إذا طلق قبل الدخول النظر فيه إلى ما يفوت به غرض صحيح ولا نظر إلى القيمة ولا نقصان العين ، ولذلك يقول : الحمل في البهائم في البيع زيادة ليس بعيب ، وفي الصداق زيادة ونقص يمنع من الرجوع القهري ، فجملة أنواع العيب ستة وإن تكثرت أبوابها ، [ ص: 552 ] والموهوب بعوض حكمه حكم المبيع ، وقال أبو ثور : لا يرد بالعيب ولا يرجع بشيء ، وهو بعيد . ( فرع ) قد تبين لك زوال الصفة الكاملة بعد البيع وقبل القبض يثبت الخيار وذلك غير داخل في الضابط المذكور ، والاعتذار عن ذلك بأن يفوت الخيار لا لكونه عيبا ، بل لفوات بعض المستحق ، كما تقدمت الإشارة إليه ، والله أعلم . وقول المصنف : رجع فيه إلى أهل الخبرة بذلك الجنس ، قال صاحب التهذيب : إن قال واحد من أهل العلم به : إنه عيب ، ثبت الرد به ، وكذلك يقتضيه كلام صاحب العدة واعتبر صاحب التتمة شهادة اثنين : ولو اختلفا في بعض الصفات هل هو عيب ؟ وليس هناك من يرجع إليه ، فالقول قول البائع مع يمينه . ( فائدة ) الرجوع في العيب إلى العرف له نظائر في الفقه ، منها طول المجلس المانع من البناء على الصلاة ، وكثير النجاسة المجاوز لحد العفو ، وقدر الصفة في الإناء والتفرق القاطع للخيار والقبض والحرز والإحياء ، ومواضع كثيرة الحكم فيها يحال على العرف ، إما قطعا ، أو على خلاف . وقد اشتهر على ألسنة الفقهاء أن ما ليس له حد في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ، وليس هذا مخالفا لما يقوله الأصوليون من أن لفظ الشارع يحمل على المعنى الشرعي ، ثم العرفي ثم اللغوي ، والجمع بين الكلامين أن مراد الأصوليين إذا تعارض معناه في العرف ومعناه في اللغة قدمنا العرف ، ومراد الفقهاء إذا لم يعرف حده في اللغة ولم يقولوا : ليس له معنى ، فالمراد أن معناه في اللغة لم ينصوا على حده بما يثبته ، فيستدل بالعرف عليه .




                                      الخدمات العلمية