الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا القلائد ) قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم . وفي الحديث : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . وقال الجمهور : القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة . وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه . وحكى الطبري عن ابن عباس أن القلائد : هي الهدي المقلد ، وأنه إنما سمي هديا ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد منه . قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدي إنما يقال لما لم يقلد . وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد . وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ; أي : لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها كما قال تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هديا كان أو إنسانا ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوما عند المخاطب .

( ولا آمين البيت الحرام ) وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي ، بحذف النون للإضافة إلى البيت ; أي : ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار . قال الزمخشري : وإحلال هذه ; أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله .

( يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لـ آمين . وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم . وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها . وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد ، يبتغون رجاء الزيادة في هذا . وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله . وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معادا ، ومنهم من يبتغي الرضوان بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك بناء على ظنه . وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين . وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجل لهم العقوبة فيها . وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد ، وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة . نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم . وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان .

ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة . وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح . وقرأ حميد بن قيس والأعرج : ( تبتغون ) بالتاء خطابا للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أن المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالا لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقرأ الأعمش : ( ورضوانا ) بضم الراء ، وتقدم في آل عمران [ ص: 421 ] أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف .

( وإذا حللتم فاصطادوا ) تضمن آخر قوله : أحلت لكم ، تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : (ولا يجرمنكم ) راجعا إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة . فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكما ، لا مؤكدة مسددة ، فتكون اعتراضا ; بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام . ولا تقديم ولا تأخير هنا ، فيكون أصل التركيب : غير محلي الصيد وأنتم حرم فإذا حللتم فاصطادوا ، وفي الآية الثانية يكون أصل التركيب ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم ، كما ذهب إليه بعضهم ، وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال : ( وإذ قتلتم نفسا ) الآية ، ثم يقال : ( وإذ قال موسى لقومه ) وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي ، بل يجب ، أن ينزه القرآن عنه .

قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ . وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سوره وإن خالف في ذلك بعضهم .

والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا . انتهى . ولما كان الاصطياد مباحا ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة . وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى واقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه .

وقرئ : فإذا حللتم وهي لغة ; يقال : حل من إحرامه وأحل . وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : ( فاصطادوا ) بكسر الفاء . قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء . وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا ، بكسر الفاء ، مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل . انتهى . وليس عندي كسرا محضا بل هو من باب الإمالة المحضة ، لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في " فإذا " لوجود كسرة إذا .

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم [ ص: 422 ] أي : لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك . فيكون أن تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار . وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني ; أي : اعتداؤكم عليكم . وتتعدى أيضا إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم . وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب . وقرأ الحسن ، وإبراهيم وابن وثاب والوليد عن يعقوب : ( يجرمنكم ) بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة .

قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه . انتهى . وهذا تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر . وقرأ النحويان وابن كثير وحمزة وحفص ونافع : شنآن ، بفتح النون . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع . والأظهر في الفتح أن يكون مصدرا ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفا ، وفعلان في الأوصاف موجود ، نحو قولهم : حمار قطوان ; أي : عسير السير ، وتيس عدوان : كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر . قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم . ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنئ بمعنى البغض . وهو متعد وليس مضافا للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدرا ، فإنه يحتمل أن يكون مضافا للمفعول وهو الأظهر . ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل ; أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفا ، فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد . وحكي أيضا شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعل لازم . وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وفغر فوه بمعنى فتح وانفتح . وجوز أن يكون مصدرا ، وقد حكي في مصادر شتى ومجيء المصدر على فعلان ، بفتح الفاء وسكون العين - قليل ; قالوا : لويته دينه ليانا . وقال الأحوص :


وما الحب إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا



أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها . والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إن صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إن صدوكم ، وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسر ( إن ) ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنين عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأن مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم ؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جدا ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صد في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل . وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعا عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحا . وقرأ باقي السبعة : ( أن ) ، بفتح الهمزة ، جعلوه تعليلا للشنآن ، وهي قراءة واضحة ; أي : شنآن قوم من أجل أن صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام . والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم .

( وتعاونوا على البر والتقوى ) لما نهى عن الاعتداء أمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأن بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون . وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو . انتهى . وقال قوم : هما بمعنى واحد ، [ ص: 423 ] وكرر لاختلاف اللفظ تأكيدا . قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب . فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوز . انتهى . وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه . وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة . يعني : اتباع السنة .

( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله ; قاله عطاء . وقيل : الإثم الكفر والعصيان ، والعدوان البدعة . وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس ; قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان .

( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيدا لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب . فيجب أن يتقى ، وشدة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض . وقال مجاهد : نزلت نهيا عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل .

( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) تقدم مثل هذه الجملة في البقرة . وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع . انتهى . وليس كذلك فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفننا في الكلام واتساعا ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلا أو لا كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلا ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد .

( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات . قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها . وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ . وقال مالك وغيره من الفقهاء : في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في المعراض : " وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ " . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم . وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان . قال ابن عطية : كل ما مات ضغطا فهو نطيح . وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : ( والمنطوحة ) .

والمعني في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه . ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها . وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : ( السبع ) بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ عبد الله : ( وأكيلة السبع ) . وقرأ ابن عباس : ( وأكيل السبع ) وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين .

( إلا ما ذكيتم ) قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وطاوس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات ; أي : من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع . فما أدرك منها بطرف بعض ، أو يضرب برجل ، أو يحرك ذنبا . وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل . وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أن الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة . وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات . وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : لا ما أدركتم ذكاته [ ص: 424 ] وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه . وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ; والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال . وقيل : هو استثناء منقطع ; والتقدير : لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه . وكأن هذا القائل رأى أن هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسبب وصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعا . والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب . وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أن ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتا ، إذا كان استثناء منقطعا فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وذهب الجمهور إلى جواز أكله . والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم . وهو ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) المعنى على التشبيه ; أي : ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه فكما أن ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ، ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته .

( وما ذبح على النصب ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها . قال ابن عباس : ويحلون عليها . قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : وما ذبح على النصب ، ونزل ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) انتهى . وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد . قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد . وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضا : نصب ، لأنه ينصب . انتهى . وقرأ الجمهور : النصب بضمتين . وقرأ طلحة بن مصرف بضم النون ، وإسكان الصاد . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور . وقرأ الحسن بفتح النون ، وإسكان الصاد .

( وأن تستقسموا بالأزلام ) هذا معطوف على ما قبله ; أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم وهو النصيب ، أو القسم ، وهو المصدر . قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم . انتهى . وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها . وروي عنه أيضا : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج . وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله :


لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى     ولا زاجرات الطير ما الله صانع



وروي هذا عن ابن جبير ، قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه ، في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي . وإن خرج الغفل أعاد الضرب . والثاني : سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر : تصح ، وفي آخر : لا ، فإذا أرادوا أمرا [ ص: 425 ] ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر : منكم ، وفي آخر : من غيركم ، وفي آخر : ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أم من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به . وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل . والثالث : قداح الميسر ; وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة .

( ذلكم فسق ) الظاهر أن الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبوصالح عن ابن عباس . وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا . ( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقا ؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال : ( لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم . فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر . انتهى . قال الزمخشري في اسم الإشارة ، رواه عن ابن عباس علي بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير . قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات . وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا ، أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح .

( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد . وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ، ورسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك . وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع . وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه . وقال الزجاح : لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت . انتهى . واتبع الزمخشري الزجاج فقال : ( اليوم ) لم يرد به يوما بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك . ونحوه الآن في قوله :


الآن لما ابيض مسربتي     وعضضت من نابى على جدم

انتهى .

والذين كفروا : مشركو العرب . قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم . وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي ، صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار . ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة . ألا بطل السحر اليوم . وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم . وقيل : يئسوا من دينكم أن [ ص: 426 ] يغلبوه لأن الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله . انتهى . وقرأ أبو جعفر : ( ييس ) من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو .

فلا تخشوهم و اخشون قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم . وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم . وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم . والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى .

( اليوم أكملت لكم دينكم ) يحتمل ( اليوم ) المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس . قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إن حجوا وليس معهم مشرك . وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم . أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد . انتهى . وهذا القول الثاني هو قول ابن عباس والسدي قالا : كمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم . وقال قتادة وابن جبير : كماله أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك . وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض . وقيل : كماله الأمن من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدم . وقال القفال : الدين ما كان ناقصا البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالما في أول المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة . وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي ، صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وأتممت عليكم نعمتي أي : في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة والخلود . وحسن العبارة الزمخشري ، فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان . انتهى . فكلامه مجموع أقوال المتقدمين . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج . وقال السدي : هو الإظهار على العدو . وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام . وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام .

ورضيت لكم الإسلام دينا يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ) قاله الزمخشري . وقال ابن عطية الرضافي : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأن الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها . والإسلام هنا هو الدين في قوله : إن الدين عند الله الإسلام . انتهى ، وكلامه يدل على أن الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة . وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم دينا ، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حمل على ظاهره [ ص: 427 ] وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم . وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا كاملا إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء .

( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل . وتقدم تفسير مثل هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : " فمن اطر " بإدغام الضاد في الطاء . ومعنى متجانف : منحرف ومائل . وقرأ الجمهور : متجانف بالألف . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : ( متجنف ) دون ألف . قال ابن عطية : وهو أبلغ في المعنى من ( متجانف ) ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل . وكذلك تصاون الرجل وتصون وتغافل وتغفل . انتهى . والإثم هنا قيل : أن يأكل فوق الشبع . وقيل : العصيان بالسفر . وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجانفنا فيه لإثم ، ولا تعمدنا ونحن نعلمه . أي : ما ملنا فيه لحرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية