الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل السبر والتقسيم. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . فإن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم، فقال: إن الخلق لله، خلق من كل زوج مما ذكر ذكرا وأنثى، فمم جاء تحريم ما ذكرتم، وما علته، لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، أو لا يدرى له علة، وهو التعبدي، بأن أخذ ذلك عن الله، والأخذ عن الله إما بوحي، أو إرسال رسول، أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه، وهو في معنى قوله: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا .. فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وجه منها: الأول: يلزم عليه أن تكون جميع المذكور حراما. والثاني: يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراما. والثالث: يلزم عليه تحريم الصنفين معا، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة، لأن العلة على ما ذكر، تقتضي إطلاق التحريم، والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدعوه، وبواسطة رسول كذلك، لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى، وهو أن ما قالوه افتراء على الله وضلال. [ ص: 350 ] ومنها القول بالموجب، قال ابن أبي الإصبع: وحقيقته رد كلام الخصم من فحوى كلامه. وقال غيره: هو قسمان: أحدهما: أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم، فيثبتها لغير ذلك الشيء، كقوله تعالى: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . فالأعز وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية عن فريق المؤمنين، وأثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة، فأثبت الله في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون، وكأنه قيل: صحيح ذلك ليخرجن الأعز منها الأذل، لكن هم الأذل المخرج، والله ورسوله الأعز المخرج. والثاني: حمل لفظ واقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله، بذكر متعلقه، ولم أر من أورد له مثالا من القرآن. وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم . ومنها التسليم، وهو أن يفرض المحال إما منفيا أو مشروطا بحرف الامتناع، ليكون المذكور ممتنع الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلم وقوع ذلك تسليما جدليا، ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه، كقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . المعنى ليس مع الله من إله، ولو سلم أن مع الله إلها لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله. والواقع خلاف ذلك، ففرض إلهين فصاعدا محال، لا يلزم عليه من المحال. ومنها الإسجال، وهو الإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به، نحو قوله تعالى: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [ ص: 351 ] ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم . فإن في ذلك إسجالا بالإيتاء والإدخال، حيث وصفا بالوعد من الله الذي لا يخلف وعده. ومنها الانتقال، وهو أن ينتقل المستدل إلى استدلال غير الذي كان آخذا فيه، لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الأول، كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له: ربي الذي يحيي ويميت ، فقال الجبار: أنا أحيي وأميت، ثم دعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه، ومن لا يجب عليه القتل فقتله، فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء والإماتة، أو علم بذلك وغالط بهذا الفعل، فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد له الجبار وجها يتخلص به منه، فقال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فانقطع الجبار وبهت، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن من هو أسن منه يكذبه. ومنها المناقضة، وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه. كقوله تعالى: ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . ومنها مجاراة الخصم ليعثر، بأن يسلم بعض مقدماته حيث يراد تبكيته وإلزامه، كقوله تعالى: إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا . فقوله: إن نحن إلا بشر مثلكم فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية، فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم، وليس مرادا، بل هو من مجاراة الخصم ليعثر، فكأنهم قالوا: ما ادعيتم من كوننا بشرا حق لا ننكره، ولكن هذا لا ينافي أن يمن الله علينا بالرسالة.

التالي السابق


الخدمات العلمية