الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : الزنا يجمع خلال الشر كلها .

قال في روضة المحبين : والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع ، وفساد المروءة وقلة الغيرة ، فلا تجد زانيا معه ورع ، ولا وفاء بعهد ، ولا صدق في حديث ، ولا محافظة على صديق ، ولا غيرة تامة على أهله ، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته ، ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله ، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بذلك لقابله أسوأ مقابلة . ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين .

ومنها ظلمة القلب ، وطمس نوره ، وهو الذي أوجب طمس نور الوجه ، وغشيان الظلمة له ، ومنها الفقر اللازم ، وفي أثر يقول الله تعالى : { إن الله مهلك الطغاة ، ومفقر الزناة } . ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده المؤمنين . ومنها أنه يسلبه [ ص: 442 ] أحسن الأسماء ، وهو اسم العفة والبر والعدالة ، ويعطيه أضدادها كاسم الفاجر والفاسق والزاني والخائن .

ومنها أنه يسلبه اسم الإيمان كما مر ، فيسلب اسم الإيمان المطلق دون مطلق الإيمان ، وسئل جعفر بن محمد رضي الله عنهما عن هذا الحديث فخط دائرة في الأرض وقال هذه دائرة الإيمان ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها وقال هذه للإسلام ، فإذا زنى العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه ، ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنا ، كما أن الرجل يكون معه جزء ما من العلم ولا يسمى به عالما فقيها ، وكذلك يكون معه شيء من التقوى ولا يسمى متقيا ونظائره .

قال ابن القيم : فالصواب إجراء الحديث على ظاهره ، ولا يتأول بما يخالف ظاهره . قلت : وكنت سألت في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف هل يكون الزاني في حال تلبسه بالزنا وليا لله تعالى ؟ قلت : لا ، فعظم ذلك على بعض الطلبة والمدرسين ، ومضى رجل من الإخوان إلى أحد الأعيان فذكر له القصة وحرف بعض تحريف ، وكان ذلك الكبير من أشياخي ، فلما حضرت لصلاة الظهر في جامع بني أمية وفرغت من الصلاة وانصرفت إلى نحو المدرسة أرسل إلي الشيخ وقال لي بلغني عنك مقالة ساءتني ، فقلت له : لا ساءك الله بمكروه ما هي ؟ فذكر لي القضية ، فقلت : سبحان الله ، المصطفى يسلبه اسم الإيمان وأنتم لا تسلبونه اسم الولاية ، فلا بد من حمل كلام المعصوم على أحد أمرين ، إما أن يكون إيمان الزاني قد ارتفع عنه كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره ، وكان عليه كالظلة ، وعند البيهقي : أن الإيمان سربال سربله الله من يشاء ، فإن زنى العبد نزع منه سربال الإيمان ، فإن تاب رد عليه ، أو يكون إيمانه ناقصا ، وعلى الحالتين فليس هو وليا في تلك الحالة . فرضي الشيخ بما قلت ودعا لي وانصرف ، والله أعلم .

ومنها أنه يفارقه الطيب المتصف به أهل العفاف ، ويتبدل به الخبث المتصف به الزناة في قوله تعالى : { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } وقد حرم الله الجنة على كل خبيث بل [ ص: 443 ] جعلها مأوى الطيبين . قال تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } ، { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم } والزناة من أخبث الخلق .

وقد جعل الله جهنم دار الخبث وأهله ; فإذا كان يوم القيامة ميز الخبيث من الطيب وجعل الخبيث بعضه فوق بعض ثم ألقاه وألقى أهله في جهنم ، فلا يدخل النار طيب كما لا يدخل الجنة خبيث .

ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن . وإذا كان الله سبحانه عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه في الآخرة يوم القيامة فلأن يمنع من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا من التمتع بالحور العين يوم القيامة أولى . بل كل ما ناله العبد في الدنيا ، فإن التوسع من حلاله ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما يتوسع فيه فكيف بالحرام .

وفي كتاب الزهد للإمام أحمد رضي الله عنه : لا يكون البطالون حكماء ، ولا تلج الزناة ملكوت السماء . ولو شرعنا نتكلم على فضائح الزنا وقبائح الخنا لخرجنا عن المقصود ، ولكن في الإشارة ما يغني عن العبارة . ويكفي الزاني إباحة دمه وأنه غير معصوم . فيا لها من صفقة ما أبخسها ، وخصلة ما أنحسها . قد ذهبت اللذات . وبقيت الحسرات .

وكان سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه كثيرا ما ينشد :

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الخزي والعار     تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار

والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية