الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 192 ] تنبيهات [ محل الخلاف في مسألة أقل الجمع ]

                                                      الأول : استشكل ابن الصائغ النحوي ، والقرافي محل الخلاف في هذه المسألة ، فقال ابن الصائغ في شرح الجمل : الخلاف في هذه المسألة إن كان المراد به الأمر المعنوي ، فلا شك في أن الاثنين جمع ، لأنه ضم أمر إلى آخر ، وإن كان المراد أنه إذا ورد لفظ الجمع ، فهل ينبغي أن يحمل ؟ فلا شك أن الأصل فيه ، والأكثر إطلاق لفظ الجمع على الثلاثة فصاعدا ، وهو قول أئمة اللغة ، ويكفي فيه قول ابن عباس لعثمان : ليس الإخوة أخوين بلغة قومك ، وموافقة عثمان له ، حيث استدل بغير اللغة . ونص سيبويه على أنه يجوز أن يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع ، مع أن للتثنية لفظا وحمله عليه قوله تعالى : { لا تخف خصمان } ، لأن الخطاب وقع لداود عليه السلام من اثنين وقوله تعالى : { فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } وقال ابن خروف . يحتمل أن يكون ضمير معكم لهما ولفرعون ، وبه جزم ابن الحاجب .

                                                      وقال السيرافي في قوله في الآية الأخرى : ( إنني معكما ) يدل على ما قاله سيبويه ، وأيضا فالمعنى وأنا معكم في النصرة والمعونة ، فلا يصلح أن يشركهما فرعون في ذلك .

                                                      وأما القرافي فأطنب في إشكال هذه المسألة ، وقال : إن له نحوا من عشرين سنة يورده ، ولم يتحصل عنه جواب ، وهو أن الخلاف في هذه [ ص: 193 ] المسألة غير منضبط ، لأنه إن فرض الخلاف في صيغة الجمع الذي هو " ج م ع " امتنع إتيانه في غيرها ; بل صرحوا بعدم مجيئه فيه ، بل الخلاف في مدلوله ، وحينئذ فمدلولها ما يسمى جمعا ، وصيغ الجموع شيئان : جمع قلة ، وجمع كثرة ، واتفق النحاة على أن جمع القلة موضوع للعشرة فما دونها إلى الاثنين والثلاثة على الخلاف ، وجمع الكثرة موضوع لما فوق العشرة .

                                                      قال الزمخشري وغيره وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر ، وتصريحهم بالاستعارة يقتضي أن كلا منهما مستعمل في معنى الآخر مجازا ، فإن جمع الكثرة موضوع لما فوق العشرة ، فإذا استعمل فيما دونها كان مجازا ، وإن كان الخلاف في جمع الكثرة لم يستقم ، لأن أقل الجمع على هذا التقدير أحد عشر ، وإطلاقه على الثلاثة حينئذ مجاز .

                                                      والبحث في هذه المسألة ليس في المجاز ، فإن إطلاق لفظ الجمع على الاثنين لا خلاف فيه ، إنما الخلاف في كونه حقيقة ، بل لا خلاف في جواز إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد مجازا ، فكيف الاثنان ؟ وإن كان الخلاف في جمع القلة ، وهو المتجه ، لأنه موضع للعشرة فما دونها ، فيجوز أن يقال : أقله اثنان ، لكن لا يجوز أن يكون هذا مرادهم ، لأنهم ذكروا تمثيلهم في جموع الكثرة ، فدل على أن مرادهم الأعم من جمع القلة وغيره وقد حكى الأصفهاني عنه هذا الإشكال ، ثم قال : والحق أن الخلاف يجوز مطلقا سواء كان جمع قلة أو كثرة ، ونقول : جمع الكثرة يصدق على ما دون العشرة حقيقة ، وأما جمع القلة فإنه لا يصدق على ما فوق العشرة .

                                                      قال : وإن ساعد على ذلك منقول الأدباء فلا كلام ، وإلا فمتى خالف فهو محجوج بالأدلة الأصولية الدالة على عموم الجمع على الإطلاق ، ولا يمكن ادعاء إجماعهم على خلاف ذلك ا هـ .

                                                      ويقدح في ذلك نقل القرافي عن ابن الأعرابي والزمخشري وغيرهما أن [ ص: 194 ] جمع الكثرة لا يستعمل فيما دون العشرة إلا مستعارا .

                                                      ويشهد لما قاله القرافي من تخصيص الخلاف بجمع القلة ما نقله إلكيا عن إمام الحرمين ، وقد سبق ، لكن كلام إلكيا يخالفه ، وأيضا فقد قال أصحابنا : لو قال له علي دراهم قبل تفسيره بثلاثة مع أنه جمع كثرة .

                                                      الثاني : أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو حيث قامت قرينة على أنه لم يرد بالجمع الاستغراق ، أما مطلق الكلام عند المعممين فحقيقة في الاستغراق قاله إلكيا الطبري ، وهذا أخذه من شيخه إمام الحرمين ، فإنه قال : هذه المسألة لا حاجة إليها ، إلا إذا قامت المخصصات ، وإلا فالألفاظ للعموم عند فقدان أدلة التخصيص .

                                                      ونازعه الإبياري وقال : إنه غير صحيح لا على أصله ، ولا على أصل غيره ، أما أصله فإنه يرى أن الألفاظ عند التنكير لأقل الجمع فإذا لم يعرف أقل الجمع كيف يحكم بأن الألفاظ مقتصرة عليه ؟ وكذلك نقول في جمع القلة ، وإن عرف أنه لأقل الجمع ، فلا بد إذن من بيان أقل الجمع بالنسبة إلى جمع المذكر ، وإلى جمع القلة وإن عرف ; وأما على رأي الفقهاء فإنهم مفتقرون إلى ذلك فيما يتعلق بالإقرار والإنكار ، والإلزام والالتزام والوصايا وغيرها .

                                                      وذكر بعض شراح اللمع أنه لا خلاف في جواز الكناية عن الاثنين بلفظ الجمع ، ولكن الخلاف هل هو حقيقة في الاثنين أو مجاز ، على الوجهين ؟ .

                                                      الثالث : استثنى النحويون المشترطون للثلاثة التعبير عن عضوين من جسدين بلفظ الجمع ، نحو { فقد صغت قلوبكما } [ ص: 195 ] لقصد التخفيف . فإنه لو قيل قلباكما لثقل اجتماع ما يدل على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة مرتين ، وشرطوا أن يكون ذلك الشيء متصلا كالكبد والطحال ، وقد سبق أصل هذا الاستثناء في كلام إمام الحرمين .

                                                      الرابع : قال القاضي المسألة عندي من مسائل الاجتهاد لا من مسائل القطع ، فيكفي فيها الظنيات .

                                                      الخامس : قال الأستاذ أبو منصور : تظهر فائدة الخلاف في هذه المسألة في موضعين .

                                                      أحدهما : فيمن أوصى بشيء للفقراء أو لجيرانه ، وكانوا غير محصورين ، فهل يفرق على ثلاثة أو اثنين على هذا الخلاف ؟

                                                      الثاني : أن من قال : إن أقله ثلاثة ، أجاز تخصيص الجمع إلى أن ينتهي الباقي منه بعد التخصيص ، وإن كان الباقي منه بعد التخصيص أقل من ثلاثة كان ذلك نسخا ولم يكن تخصيصا ; ومن قال : أقله اثنان أجاز التخصيص فيه إلى أن يكون الباقي اثنين ، ولا يكون ذلك نسخا عنده . فإن بقي منه واحد فقد صار منسوخا يعني على القولين . وقد ذكر هاتين الفائدتين أيضا الإمام في التلخيص و البرهان " ، فقال في التلخيص : فائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بماله لأقل من يتناوله لفظ المساكين ، هل يصرف لاثنين أو ثلاثة ؟ وقال في " البرهان " : ذكر بعض الأصوليين من آثار هذا الخلاف أن الرجل إذا قال لفلان علي دراهم أو أوصى بدراهم ، فلفظ المقر والموصي محمول على الأقل ; فإن قيل : أقل الجمع اثنان حمل عليهما ، وإن قيل أقل الجمع ثلاثة لم يقبل التفسير [ ص: 196 ] بالاثنين ، قال : ولا أرى الفقهاء يسمحون بهذا ، ولا أرى للنزاع في أقل الجمع معنى إلا ما ذكرته . انتهى .

                                                      وحكى الأستاذ أبو إسحاق في أصوله الفائدة الثانية عن بعض أصحابنا ، ثم قال : وهذه فائدة مزيفة ، لأن أئمتنا مجمعون على جواز تخصيص الجمع والعموم بما هو دليل إلى أن يبقى تحته واحد ; انتهى . ولعل هذه طريقة قاطعة تنفي الخلاف ، وإلا فالأستاذ أبو منصور مصرح بالخلاف ، وإنكار إمام الحرمين الفائدة الأولى لا وجه له ، ثم اختار في المسألة بناءها على القول بالعموم ، ورأى أن إفادة الجموع للتعميم ثابتة على حسب اختلاف طبقات العموم في قوة الاستيعاب ، والخروج عن العموم إلى قصره على الاثنين أبعد في حكم الخطاب ودلالته من قصره على المحتملات ، فاقتضى هذا عنده طلب قوة في المخرج له عن بابه ، وتقديم ما هو الأرجح من غير منع من الرد إلى الاثنين .

                                                      السادس : وقع في عبارة الشيخ أبي إسحاق ، والماوردي وغيرهما من كتب الفقه أقل الجمع المطلق ثلاثة ، وكأنهم يريدون بالمطلق نحو دراهم ونحوه بخلاف الجمع المقيد نحو عشرة دراهم أو تسعة أو ثلاثة ، فإنه جمع وليس بمطلق فلا يتناول إلا مقيده .

                                                      فوائد : ذكرها الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصوله :

                                                      الأولى : اتفقوا على أن لفظ الواحد والاثنين لا يحمل على ما هو أكثر إلا بدليل ، وإن كانت ظواهر وردت عليه في معناه .

                                                      الثانية : اختلفوا في مقابلة الجمع بالجمع ، كقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } فقيل إن آحاده تقابل آحاده ، [ ص: 197 ]

                                                      وقيل بل الجمع الجمع : فعلى الأول يكون الظاهر موجبا تحريم كل من يقع عليه اسم الأمومة على كل واحد . والثاني يوجب تحريم كل أم على ابنها ، ويطلب في تحريمه على غيره دليل يختص به ، قال : والظاهر منه مقابلة الواحد بالواحد ، كقولهم : وصل الناس دورهم ، وحصدوا زروعهم ، ثم يكون جمعه في الواحد بما عداه من الأدلة .

                                                      الثالثة : اختلفوا في الطائفة ، فقيل كالجمع مطلقه لثلاثة ، وقيل : للجزء وأقله واحد ، ولم يرجح شيئا ، والمختار الأول لما سبق إيضاحه . نعم ، جعلها الأصحاب في باب اللعان أربعة ، فقالوا : يغلظ الحاكم بحضور جماعة أقلهم أربعة ، لقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وفيه إشكال ، لأن ذلك إن كان من مدلول اللفظ فممنوع ، لأن طائفة تطلق على الواحد فأكثر ، وإن كان لأجل أنه زنا فالإقرار به يكفي فيه رجلان على الصحيح .

                                                      الرابعة : الضمائر الراجعة إلى الظاهر تحمل على ما وضعت له في الأصل ، وإن كان المتقدم عليها مخالفا ثم تناول كل واحد منها بدليل على موافقة صاحبه ، كقولهم : رجلان قالوا ، ورجال قالا ، يحمل قوله : قالوا على الجمع ، ورجلان على التثنية في ظاهر الكلام ، ثم يطلب الدليل الذي يبين المراد منهما ، فإن قام على أن الاسم يحمل على الخبر حمل عليه ، وإن قام على أن الخبر يحمل على المبتدأ صير إليه ، وكذلك ضمائر الإناث ، والهاء والميم كقوله : رجلان قتلهم ، أو رجال قتلهما : يحتمل أن يكون الابتداء أصلا والخبر مركبا عليه ، ويجوز أن يكون الخبر مرادا والابتداء محمول على ما يوافقه ، ولا يغير أحدهما عما وضع له لموافقة صاحبه إلا بدليل يوجبه

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية