الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3307 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " البينة أو حدا في ظهرك " . فقال : يا رسول الله ! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " : فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل ، وأنزل عليه : ( والذين يرمون أزواجهم ) : فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فجاء هلال فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ " : ثم قامت ، فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها ، وقالوا : إنها موجبة ، فقال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ; فهو لشريك بن سحماء ) : ، فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لولا ما مضى من كتاب الله ; لكان لي ولها شأن " . رواه البخاري .

التالي السابق


3307 - ( وعن ابن عباس : أن هلال بن أمية ) : بضم همز وفتح ميم وتشديد تحتية ( قذف امرأته ) : أي : نسبها إلى الزنى ( عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : أي : في حضوره ( بشريك بن سحماء ) : بفتح أوله ، قال التوربشتي : هذا أول لعان كان في الإسلام ، وفيه نزلت الآية . وتقدم الكلام عليه ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( البينة ) : بالنصب لا غير ، قال التوربشتي : أي : أقم البينة ، وقوله ( أو حدا ) : نصب على المصدر أي : تحد حدا أقول : أو تقديره فتثبت حدا ، وقيل أي : حد حدا ( في ظهرك ) . فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته ) : أي : فوقها ( رجلا ينطلق ) : جواب إذا بتقدير الاستفهام على سبيل الاستبعاد أي : أيذهب حال كونه ( يلتمس ) : أي : يطلب ( البينة ؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( البينة ) : بالنصب ، وفي بعض النسخ بالرفع أي : البينة مقررة ومقدمة ( وإلا ) : وإن لم تقم البينة أو لم تكن البينة ( حد ) : مصدر مرفوع أي : فيثبت عندي حد ( في ظهرك ) : وفي رواية ابن الهمام : ( وإلا فحد في ظهرك ) . قال : وأخرجه أبو يعلى في مسنده بسنده عن أنس بن مالك قال : لأول لعان وقع في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه الصلاة والسلام : ( أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك ) : فالمسألة وهي اشتراط الأربع قطعية مجمع عليها ، والحكمة تحقيق معنى الستر المندوب إليه . ( فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ) : أي : في قذفي إياها ( فلينزلن الله ) : بسكون اللام وضم التحتية وكسر الزاي المخففة وفي آخره نون مشددة للتأكيد ، هو أمر بمعنى الدعاء ( ما يبرئ ) : بتشديد الراء وتخفيفها أي : ما يدفع ويمنع ( ظهري من الحد ) : أي : حد القذف ( فنزل جبريل ، وأنزل ) : أي : جبريل - عليه الصلاة والسلام - أي : على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( والذين يرمون أزواجهم ) : أي : يقذفون زوجاتهم ( فقرأ ) : أي : ما بعده من الآيات ( حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فجاء هلال فشهد ) : أي : لاعن ( والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ " ) الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول بعد فراغهما من اللعان ، والمراد أنه يلزم الكاذب التوبة ، وقيل : قاله قبل اللعان تحذيرا لهما منه ( ثم قامت ، فشهدت ) : أي : لاعنت ( فلما كانت عند الخامسة ) : أي : من شهادتها ( وقفوها ) : بالتخفيف أي : حبسوها ومنعوها عن المضي فيها وهددوها ( وقالوا ) : أي : ألا ( إنها ) : أي : الخامسة ( موجبة ) : وقيل : معنى وقفوها أطلعوها على حكم الخامسة ، وهو أن اللعان إنما يتم به ويترتب عليه آثاره ، وأنها موجبة للعن مؤدية إلى العذاب إن كانت كاذبة . ( قال ابن عباس : فتلكأت ) : بتشديد الكاف أي : توقفت يقال : تلكأ في الأمر إذا تبطأ عنه وتوقف فيه ( ونكصت ) : أي : رجعت وتأخرت ، وفي القرآن ( نكص على عقبيه ) والمعنى أنها سكتت بعد الكلمة الرابعة ( حتى ظننا أنها ترجع ) : أي : عن مقالها في تكذيب الزوج ، ودعوى البراءة عما رماها به ( ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ) : أي : في جميع الأيام وأبد الدهر ، أو فيما بقي من الأيام بالإعراض عن اللعان والرجوع إلى تصديق الزوج ، وأريد باليوم الجنس ; ولذلك أجراه مجرى العام ، والسائر كما يطلق للباقي يطلق للجميع ( فمضت ) : أي : في الخامسة وأتمت اللعان بها [ ص: 2162 ] ( وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبصروها " ) : أمر من الإبصار أي : انظروا وتأملوا فيما تأتي به من ولدها ( فإن جاءت به أكحل العينين ) : أي : الذي يعلو جفون عينيه سواد مثل الكحل من غير اكتحال ( سابغ الأليتين ) : أي : عظيمهما ، من السبوغ بالموحدة ، يقال للشيء إذا كان تاما وافيا وافرا : سابغ ( خدلج الساقين ) : أي : سمينهما ( فهو ) : أي : ذلك الولد ( لشريك بن سحماء ) : أي : في باطن الأمر لظهور الشبه ( فجاءت به كذلك ) : قال الطيبي - رحمه الله - : وفي إتيان الولد على الوصف الذي ذكره - صلوات الله عليه - هنا وفي قصة عويمر بأحد الوصفين المذكورين ، مع جواز أن يكون على خلاف ذلك - معجزة وإخبار بالغيب . ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لولا ما مضى من كتاب الله ) : ( من ) : بيان لـ ( ما ) : ، أي : لولا ما سبق من حكمه بدرء الحد عن المرأة بلعانها ( لكان لي ولها شأن ) : أي : في إقامة الحد عليها ، أو المعنى : لولا أن القرآن حكم بعدم الحد على المتلاعنين وعدم - التعزير لفعلت بها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين . قال الطيبي : وفي ذكر الشأن وتنكيره تهويل وتفخيم لما كان يريد أن يفعل بها لتضاعف ذنبها . وفي الحديث : دليل على أن الحاكم لا يلتفت إلى المظنة والأمارات ، وإنما يحكم بظاهر ما تقتضيه الحجج والأيمان ، وأن لعان الرجل مقدم على لعان المرأة ; لأنه مثبت ، وهذا دارئ ، والدرء إنما يحتاج إليه بعد الإثبات ( رواه البخاري ) .

قال ابن الهمام : الحديث في البخاري وأبي داود ، يختلف ألفاظهما ، ويتفق عن ابن عباس قال : جاء هلال بن أمية من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا ، فرأى ذلك بعينه وسمع بأذنه ، فلم يهجر حتى أصبح ثم غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به واشتد عليه فنزلت : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) الآية فسرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أبشر يا هلال ! فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ) : قال هلال : كنت أرجو ذلك من ربي - تعالى - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أرسلوا إليها " : فجاءت ، فتلا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فقال هلال : والله لقد صدقت عليها ، فقالت : كذبت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لاعنوا بينهما " فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ، فلما كان الخامسة قيل له : اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وأن هذه هي الموجبة التي [ توجب عليها العقاب ] ، فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم قال لها : اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله وإنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وأن هذه الموجبة التي توجب العقاب فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها إلى الأب [ ولا ترمى ] ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها - فعليه الحد ، وقضى أن لا يثبت لها عليه قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها ، ثم قال : " إن جاءت به أصهب نضح ناتئ الأليتين خمش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جعدا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فهو للذي زنت به " : ، فجاءت به أورق إلى آخر الأوصاف التالية ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ) . قال عكرمة : وكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر ، وما يدعى لأب . هذه لفظة لأبي داود . وفي رواية أخرى : سائر الأيام لا أفضح قومي .

وفي مسلم والنسائي عن أنس : أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، وكان أخا البراء بن مالك ، وكان أول رجل لاعن في الإسلام ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( انظروها فإن جاءت به أبيض سبطا وضيء العين فهو لهلال بن أمية ، وإن جاءت به أكحل جعدا خمش الساقين فهو لشريك بن سحماء ) . وفي سنن النسائي أيضا [ ص: 2163 ] عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته ، وكانت حبلى ، وأخرجه عبد الرزاق هكذا أيضا . وروى ابن سعد في الطبقات في ترجمة عويمر ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : شهدت عويمر بن الحارث العجلاني ، وقد رمى امرأته بشريك بن سحماء ، فلاعن بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حامل ، فرأيتهما يتلاعنان قائمين عند المنبر ثم ولدت ، فألحق الولد بالمرأة ، وجاءت به أشبه الناس بشريك بن سحماء ، وكان عويمر قد لامه قومه وقالوا : امرأة لا نعلم عليها إلا خيرا ، فلما جاء الشبه بشريك عذره الناس ، وعاش المولود سنتين ثم مات وعاشت أمه بعده يسيرا ، وصار شريك بعد ذلك بحالة سوء .

قال الواقدي : وحدثني الضحاك بن عثمان أن عويمرا . . . فساق الحديث إلى أن قال : ولم يحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عويمرا في قذفه بشريك بن سحماء ، وشهد عويمر بن الحارث ، وشريك بن السحماء أحدا مع رسول الله . ففي هذا أن الولد عاش سنتين ومات ، ونسبه في قصة هلال إلى شريك أيضا ، ونسب إلى شريك في قصة عويمر ، قيل : ويجمع بينهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهما واقعتان ، وفي النفس منه شيء . وفي الصحيحين أيضا عنابن عباس في قصة هلال ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( اللهم بين ) : فوضعت شبها بالذي ذكر زوجها أنه وجد عند أهله ، فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا اللعان بينهما كان بعد الوضع فما تقدم خلافه ، وهذا تعارض ، والله - تعالى - أعلم .

ثم اعلم أن لا لعان بنفي الحمل وإن ولدت لأقل من ستة أشهر ، وهذا قول أبي حنيفة وزفر ، وبه قال أحمد ، والثوري ، والحسن ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وأبو ثور . وعند أبي يوسف ومحمد : يجب اللعان إذا ولدت لأقل من ستة أشهر للتيقن لقيام الحمل عند القذف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة أولا . وذكر الطحاوي عن أبي يوسف أنه يلاعن قبل الولادة ، كقول الشافعي لحديث هلال بن أمية .




الخدمات العلمية