الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم كان صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمدا على فخذيه كما ذكر [ ص: 233 ] عنه : وائل وأبو هريرة ، ولا يعتمد على الأرض بيديه ، وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه ( كان لا ينهض حتى يستوي جالسا ) . وهذه هي التي تسمى جلسة الاستراحة .

واختلف الفقهاء فيها: هل هي من سنن الصلاة فيستحب لكل أحد أن يفعلها ، أو ليست من السنن ، وإنما يفعلها من احتاج إليها ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله .

قال الخلال : رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة وقال : أخبرني يوسف بن موسى ، أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال : على صدور القدمين على حديث رفاعة .

وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه ، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة ، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ، ومالك بن الحويرث .

ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائما لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم ، ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة ، إلا إذا علم أنه فعلها على أنها سنة يقتدى به فيها ، وأما إذا قدر أنه [ ص: 234 ] فعلها للحاجة ، لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة ، فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة .

وكان إذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت، كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة ، فاختلف الفقهاء : هل هذا موضع استعاذة أم لا؟ بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح، وفي ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد ، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة ؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة ، أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها .

ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة ، والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) ) ولم يسكت ، وإنما يكفي استعاذة واحدة ؛ لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت ، بل تخللهما ذكر ، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله أو تسبيح أو تهليل أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك .

[ ص: 235 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الثانية كالأولى سواء ، إلا في أربعة أشياء : السكوت ، والاستفتاح ، وتكبيرة الإحرام ، وتطويلها كالأولى ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستفتح ، ولا يسكت ، ولا يكبر للإحرام فيها ، ويقصرها عن الأولى ، فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم .

فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة ، وكان لا ينصبها نصبا ، ولا ينيمها ، بل يحنيها شيئا ، ويحركها شيئا ، كما تقدم في حديث وائل بن حجر ، وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ، ويحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ، ويرفع السبابة يدعو بها ، ويرمي ببصره إليها ، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ، ويتحامل عليها .

وأما صفة جلوسه فكما تقدم بين السجدتين سواء ، يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى . ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة .

وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم في " صحيحه " ( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى ) فهذا في التشهد الأخير كما يأتي وهو أحد الصفتين اللتين رويتا عنه ، ففي " الصحيحين " من حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم ( فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى ، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته ) فذكر أبو [ ص: 236 ] حميد أنه كان ينصب اليمنى . وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها ، ولم يقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم : إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول ، ولا أعلم أحدا قال به ، بل من الناس من قال : يتورك في التشهدين ، وهذا مذهب مالك رحمه الله .

ومنهم من قال : يفترش فيهما فينصب اليمنى ، ويفترش اليسرى ويجلس عليها ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، ومنهم من قال : يتورك في كل تشهد يليه السلام ، ويفترش في غيره ، وهو قول الشافعي رحمه الله : ومنهم من قال: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ فرقا بين الجلوسين ، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله .

ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى : أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته ، فتكون قدمه اليمنى مفروشة ، وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، ومقعدته على الأرض ، فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس ، هل كانت مفروشة أو منصوبة ؟ وهذا - والله أعلم - ليس اختلافا في الحقيقة ، فإنه كان لا يجلس على قدمه ، بل يخرجها عن يمينه فتكون بين المنصوبة والمفروشة ، فإنها تكون على باطنها الأيمن ، فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصبا لها جالسا على عقبه ، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالسا على باطنها، وظهرها إلى الأرض ، فصح قول أبي حميد ومن معه ، وقول عبد الله بن الزبير ، أو يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا ، فكان ينصب قدمه وربما فرشها أحيانا ، وهذا أروح لها . والله أعلم .

ثم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة ، ويعلم أصحابه أن يقولوا : ( التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) .

[ ص: 237 ] وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، بسم الله وبالله ، التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أسأل الله الجنة ، وأعوذ بالله من النار ) .

ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث ، وله علة غير عنعنة أبي الزبير .

وكان صلى الله عليه وسلم يخفف هذا التشهد جدا حتى كأنه على الرضف - وهي الحجارة المحماة - ولم ينقل عنه في حديث قط أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد ، ولا كان أيضا يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب النار ، وفتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال ، ومن استحب ذلك فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير .

ثم كان ينهض مكبرا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدا على فخذه كما تقدم ، وقد ذكر مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمر رضي الله [ ص: 238 ] عنهما أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع ، وهي في بعض طرق البخاري أيضا ، على أن هذه الزيادة ليست متفقا عليها في حديث عبد الله بن عمر ، فأكثر رواته لا يذكرونها ، وقد جاء ذكرها مصرحا به في حديث أبي حميد الساعدي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ، ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ويقيم كل عضو في موضعه ، ثم يقرأ ، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه معتدلا لا يصوب رأسه ولا يقنع به ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، حتى يقر كل عظم إلى موضعه ، ثم يهوي إلى الأرض ، ويجافي يديه عن جنبيه ، ثم يرفع رأسه ، ويثني رجله فيقعد عليها ، ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ، ثم يكبر ويجلس على رجله اليسرى ، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ، ثم يقوم فيصنع في الأخرى مثل ذلك ، ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما يصنع عند افتتاح الصلاة ، ثم يصلي بقية صلاته هكذا ، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم ، أخرج رجليه وجلس على شقه الأيسر متوركا ) .

هذا سياق أبي [ ص: 239 ] حاتم في " صحيحه " وهو في " صحيح مسلم " أيضا ، وقد ذكره الترمذي مصححا له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في هذه المواطن أيضا .

ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها ، ولم يثبت عنه أنه قرأ في الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئا ، وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين ، واحتج لهذا القول بحديث أبي سعيد الذي في " الصحيح " : ( حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ( الم تنزيل ) السجدة ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأخريين من الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك ) .

وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين .

قال أبو قتادة رضي الله عنه : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويسمعنا الآية أحيانا ) .

زاد مسلم : ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب ، والحديثان غير [ ص: 240 ] صريحين في محل النزاع .

وأما حديث أبي سعيد ، فإنما هو حزر منهم وتخمين ، ليس إخبارا عن تفسير نفس فعله صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث أبي قتادة ، فيمكن أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة ، وأن يراد به أنه لم يكن يخل بها في الركعتين الأخريين ، بل كان يقرؤها فيهما كما كان يقرؤها في الأوليين ، فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة ، وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر ، فإنه في معرض التقسيم ، فإذا قال : كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة ، وفي الأخريين بالفاتحة ، كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه ، وعلى هذا فيمكن أن يقال : إن هذا أكثر فعله ، وربما قرأ في الركعتين الأخريين بشيء فوق الفاتحة كما دل عليه حديث أبي سعيد ، وهذا كما أن هديه صلى الله عليه وسلم كان تطويل القراءة في الفجر ، وكان يخففها أحيانا ، وتخفيف القراءة في المغرب ، وكان يطيلها أحيانا ، وترك القنوت في الفجر ، وكان يقنت فيها أحيانا ، والإسرار في الظهر والعصر بالقراءة ، وكان يسمع الصحابة الآية فيها أحيانا ، وترك الجهر بالبسملة ، وكان يجهر بها أحيانا .

والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئا أحيانا لعارض لم يكن من فعله الراتب ، ومن هذا لما بعث صلى الله عليه وسلم فارسا طليعة ، ثم قام إلى الصلاة وجعل [ ص: 241 ] يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجيء منه الطليعة ، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الالتفات في الصلاة ، وفي " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ؟ فقال : ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) .

وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بني، إياك والالتفات في الصلاة ، فإن الالتفات في الصلاة هلكة ، فإن كان ولا بد ففي التطوع ، لا في الفرض ) ولكن للحديث علتان

إحداهما : إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف .

الثانية : إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان ، وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة للملتفت ) .

فأما حديث ابن عباس : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ [ ص: 242 ] في الصلاة يمينا وشمالا ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره " فهذا حديث لا يثبت . قال الترمذي فيه : حديث غريب . ولم يزد .

وقال الخلال : أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له : إن بعض الناس أسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة . فأنكر ذلك إنكارا شديدا حتى تغير وجهه، وتغير لونه وتحرك بدنه ، ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها ، وقال : النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة ؟ ! يعني أنه أنكر ذلك ، وأحسبه قال : ليس له إسناد ، وقال : من روى هذا ؟ إنما هذا من سعيد بن المسيب ، ثم قال لي بعض أصحابنا : إن أبا عبد الله وهن حديث سعيد هذا وضعف إسناده ، وقال : إنما هو عن رجل عن سعيد ، وقال عبد الله بن أحمد : حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال : سمعت العلاء قال : سمعت مكحولا يحدث عن أبي أمامة وواثلة : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يمينا ولا شمالا ، ورمى ببصره في موضع سجوده ) فأنكره جدا وقال : اضرب عليه . فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا ، وكان إنكاره للأول أشد ؛ لأنه باطل سندا ومتنا .

والثاني : إنما أنكر سنده ، وإلا فمتنه غير منكر ، والله أعلم .

ولو ثبت الأول لكان حكاية فعل فعله ، لعله كان لمصلحة تتعلق [ ص: 243 ] بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها أو لمصلحة المسلمين ، كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال : ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب .

قال أبو داود : يعني وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس ، فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة ، وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف ، وقريب منه قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة . فهذا جمع بين الجهاد والصلاة . ونظيره التفكر في معاني القرآن واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة ، فهذا جمع بين الصلاة والعلم ، فهذا لون ، والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر ، وبالله التوفيق .

فهديه الراتب صلى الله عليه وسلم إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين ، وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية ، ولهذا قال سعد لعمر : أما أنا فأطيل في الأوليين ، وأحذف في الأخريين ، ولا آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة صلاة الفجر على سائر الصلوات كما تقدم .

قالت عائشة رضي الله عنها : ( فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر إلا الفجر ، فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة ، والمغرب لأنها وتر النهار ) رواه أبو حاتم بن حبان في " صحيحه " [ ص: 244 ] وأصله في " صحيح البخاري " .

وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في سائر صلاته؛ إطالة أولها على آخرها كما فعل في الكسوف ، وفي قيام الليل لما صلى ركعتين طويلتين ، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ، حتى أتم صلاته .

ولا يناقض هذا افتتاحه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل بركعتين خفيفتين وأمره بذلك ، لأن هاتين الركعتين مفتاح قيام الليل ، فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها ، وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحيانا بعد وتره تارة جالسا وتارة قائما مع قوله : ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ) فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر ، كما أن المغرب وتر للنهار ، وصلاة السنة شفعا بعدها لا يخرجها عن كونها وترا للنهار ، وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة وهو وتر الليل كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب ، ولما كان المغرب فرضا كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر ، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جدا ، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى ، وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف وبالله التوفيق .

[ ص: 245 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية