الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      استنبط من الآية أحكام:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: جواز نكاح الصغيرة؛ لأن اليتيم: الصغير الذي لم يبلغ، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يتم بعد احتلام رواه أبو داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم، والأول أظهر؛ لأنه الحقيقة، قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها رواه أهل السنن، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة، وقد ورد قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1590 ] فسمى البالغات يتامى؛ لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم، كقولهم: "درة يتيمة" وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: للناصر والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: لا يجوز ذلك إلا للأب فقط، وهذا قول الأوزاعي ، ومروي عن القاسم .

                                                                                                                                                                                                                                      دليل الأولين ما اقتضاه قوله تعالى: وترغبون أن تنكحوهن وهي نزلت في شأن اليتيمة ينكحها وليها ولا يقسط لها في المهر، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء واليتم الحقيقي مع الصغر، وغيره مجاز، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ابن العم، فإذا صح فيه صح.

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة القول الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة الحديث المتقدم، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد والدارقطني أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه - وكان وصيها - ممن أبته، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها كذا ذكره بعض مفسري الزيدية.

                                                                                                                                                                                                                                      وتخريج الأحاديث من زيادتي، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل؛ إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وفي حديث: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن : ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة أو كبيرة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الترمذي في "جامعه": وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال [ ص: 1591 ] أحمد وإسحاق : إذا بلغت اليتيمة سبع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز، ولا خيار لها إذا أدركت، واحتجا بحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الحكم الثاني: أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ؛ لقوله: وترغبون أن تنكحوهن

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف : إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك، قال ابن أبي ذئب : فجاز نكاحه.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الرزاق ، ووكيع، والبيهقي أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فأمر أبعد منه، فزوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الرزاق أيضا، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء : امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته، ولتأمر رجلا من عشيرتها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1592 ] أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاري في "صحيحه" تعليقا في (باب إذا كان الولي هو الخاطب) أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى ولي آخر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن المنير : ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا؛ ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر : لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه - ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن مالك : لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي : يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر وداود ، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا، كما لا يبيع من نفسه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      الحكم الثالث: أنه يجوز للأولياء التصرف في المال؛ لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وما تفعلوا من خير لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم فإن الله كان به عليما فيجزيكم به.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية