الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرد بني إسرائيل وعصيانهم أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سن القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه ، ومن حيث المعصية بهما . وأيضا فتقدم قوله أوائل الآيات ( إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) وبعده ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) وقوله : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أن عدم اتباع بني إسرائيل محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه .

وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ، ومن الإخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ودعواه مع المعصية ، ومن القتل ، ومن الحسد . ومعنى واتل عليهم : أي اقرأ واسرد ، والضمير في ( عليهم ) ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولا ، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول والمؤمنين فأعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي ، لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوة . والنبأ : هو الخبر . وابنا آدم في قول الجمهور - عمر وابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه . وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل . قال : لأن القربان إنما كان مشروعا في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ، ووهم الحسن في ذلك . وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب ؟ وأيضا فقد قال الرسول عنه : " إنه أول [ ص: 461 ] من سن القتل " وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل .

ويحتمل قوله : بالحق ، أن يكون حالا من الضمير في : واتل ; أي : مصحوبا بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف ; أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في " إذ " " نبأ " ; أي : حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلا من النبأ ; أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف . انتهى . ولا يجوز ما ذكر ، لأن ( إذ ) لا يضاف إليها إلا الزمان ، و ( نبأ ) ليس بزمان .

وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توأمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها إقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثارا لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل : أمرهما آدم بتقريب القربان . وقيل : تقربا من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائبا توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه . والقربان الذي قرباه : هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابيل وكان صاحب غنم ، فتقبل من أحدهما وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل ; أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل . وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء . وقال الزمخشري : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب . انتهى . وليس تقرب بصدقة مطاوع قرب صدقة ، لاتحاد فاعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ، ومن الآخر انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش .

( قال لأقتلنك ) هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكدا بالقسم المحذوف ; أي : لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي . وقرأ زيد بن علي : لأقتلنك بالنون الخفيفة .

( قال إنما يتقبل الله من المتقين ) قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ؟ أما إني أتقيه ، وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين ، وخطب الزمخشري هنا فقال : ( فإن قلت ) : كيف كان قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، جوابا لقوله : لأقتلنك ؟ ( قلت ) : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل ، قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني ؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم . وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت ، قال : إني أسمع الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) انتهى كلامه . ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولا كاف وهو : أن المعنى لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقيا ، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قررها الله تعالى ، وقصد خلافها ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله . قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة [ ص: 462 ] وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة . وقول من زعم أن قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ; ليس من كلام المقتول ، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضا بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في ( قال ) على الله - ليس بظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية