الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله: من ربكم يريد: لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل هي من عند الله عز وجل، و لما في الصدور يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله تبارك وتعالى ونحو هذا مما يدافع الإيمان، وجعله موعظة بحسب الناس جميعا، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه.

وقوله سبحانه: قل بفضل الله وبرحمته الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: وهدى ورحمة . قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف، وقتادة ، والحسن ، وابن عباس رضي الله عنهما: الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل: القرآن، والرحمة: أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم ، والضحاك : الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام، وقالت فرقة: الفضل: محمد صلى الله عليه وسلم، والرحمة: القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أن الفضل هو هداية الله تعالى إلى دينه، والتوفيق إلى اتباع شريعته، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس: بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم: فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة. [ ص: 494 ] والكافرون يقال لهم: بفضل الله وبرحمته فلتفرحوا، على معنى أن لو اتفق لكم، أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك.

وقرأ أبي بن كعب ، وابن القعقاع، وابن عامر ، والحسن -على ما زعم هارون- ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فلتفرحوا" ، و "تجمعون" بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة، وعن أكثرهم خلاف، وقرأ السبعة سوى ابن عامر ، وأهل المدينة، والأعرج ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش بالياء فيهما على ذكر الغائب، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما. وقرأ أبو التياح، وأبو جعفر ، وقتادة -بخلاف عنهم- وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، وجماعة من السلف، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة، ورويت عن أبي التياح. وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب، ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ، وفي مصحف أبي بن كعب ، "فبذلك فافرحوا" ، وأما من قرأ: "فلتفرحوا" ، فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة، حكى ذلك أبو علي في الحجة، وقال أبو حاتم وغيره: الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف، فكذلك الأمر إذا كان أمرا لغائب بلام، قال أبو الفتح: إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده. وقرأ أبو التياح، والحسن بكسر اللام من "فلتفرحوا" ، [ ص: 495 ] فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله: لفرح فخور ، وفي قوله: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ، قيل: إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير فليس بمذموم، وكذلك هو في هذه الآية، وإذا ورد مقيدا في شر أو مطلقا لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه، وقوله: خير مما يجمعون يريد: من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية