الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس .

اعلم أن الفقر محمود كما أوردناه في كتاب الفقر ، ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعا منقطع الطمع عن الخلق ، غير ملتفت إلى ما في أيديهم ، ولا حريصا على اكتساب المال كيف كان ، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم ، والملبس ، والمسكن ، ويقتصر على أقله قدرا ، وأخسه نوعا ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره ولا يشغل قلبه بما بعد شهر فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله ، فاته عز القناعة وتدنس ، لا محالة بالطمع ، وذل الحرص ، وجره الحرص والطمع إلى مساوي الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه أتيناه يعلمنا مما أوحي إليه ، فجئته ذات يوم ، فقال : إن الله عز وجل يقول : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ، ولو كان له الثاني : لأحب أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري نزلت سورة نحو براءة ، ثم رفعت ، وحفظ منها : إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب .

وقال صلى الله عليه وسلم : منهومان لا يشبعان : منهوم العلم ، ومنهوم المال .

وقال صلى الله عليه وسلم : يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الأمل ، وحب المال أو كما قال .

ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة ، وغريزة مهلكة أثنى الله تعالى ، ورسوله على القناعة ، فقال صلى الله عليه وسلم : طوبى لمن هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع به .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتا في الدنيا .

وقال صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس .

ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال : أيها الناس ، أجملوا في الطلب ، فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ، ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة .

وروي أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى ، فقال : أي : عبادك أغنى ? قال : أقنعهم مما أعطيته ، قال : فأيهم أعدل ? قال : من أنصف من نفسه .

وقال ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة : إذا اشتد بك الجوع ، فعليك برغيف ، وكوز من ماء ، وعلى الدنيا الدمار وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن ورعا تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا .

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع ، فيما رواه أبو أيوب الأنصاري أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، عظني وأوجز ، فقال : إذا صليت فصل صلاة مودع ، ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غدا ، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس .

وقال عوف بن مالك الأشجعي كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة ، أو ثمانية ، أو سبعة ، فقال : ألا تبايعون رسول الله ؟ قلنا أو ليس : قد بايعناك يا رسول الله ? ثم قال : ألا تبايعون رسول الله ? فبسطنا أيدينا فبايعناه ، فقال قائل منا : قد بايعناك ، فعلى ماذا نبايعك ? قال : أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، وتصلوا الخمس وأن تسمعوا ، وتطيعوا ، وأسر كلمة خفية ، ولا تسألوا الناس شيئا ، قال : فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه ، فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه .

التالي السابق


(بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس)

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن الفقر محمود - كما أوردناه في كتاب الفقر -، ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعا) بالقليل [ ص: 157 ] (منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريصا على اكتساب المال) من حيث اتفق و (كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم، والملبس، والمسكن، ويقتصر) من كل منها (على أقله قدرا، وأخسه نوعا) .

ففي المطعم يقتصر على خبز الشعير، أو خبز الذرة، فإنهما أرخص سعرا من الحنطة، وفي الإدام يقتصر على الجبن، أو الأقط، أو الفجل، أو الكراث، أو على الزيت، ونحوها، وفي الملبس على قميص من كرباص غليظ، أو على جبة من الجبات التي تعمل من صوف الغنم، فإنها أقل كلفة، وأرخص سعرا، وأمتع في المكث (و) يقنع أيضا (برد أمله إلى يومه) إن أمكنه (وإلى شهره) ، وإليه انتهت الرخصة، (ولا يشغل باله بما بعد شهر) ، فإنه يعد طول الأمل (فإن تشوق إلى الكثير، وطول الأمل فاته عز القناعة، وقد أنس لا محالة بالطمع، وذل الحرص، وجره الحرص إلى مساوي الأخلاق) ، ومذامها (وارتكاب المنكرات الخارقة للمروآت) فيخرج من حد الإنسانية .

(وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة) إلا من وفقه الله تعالى، وعصمه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من الذهب) ، وفي رواية: لو أن لابن آدم واديا مالا، وفي أخرى: من مال بدل من ذهب، وفي أخرى: من ذهب وفضة (لابتغى) ، أي: طلب (إليهما ثالثا) عداه بال لتضمن الابتغاء معنى الضم; يعني لضم إليهما ثالثا (ولا يملأ جوف ابن آدم) ، وفي أخرى: نفس ابن آدم، وفي أخرى: ولا يسد بدل ولا يملأ عين ابن آدم، وفي أخرى: بطن بدل عين، وليس المراد عضوا بعينه، والغرض من العبارات كلها واحد (إلا التراب) ، أي: لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت، ويمتلئ جوفه من تراب قبره، والمراد بابن آدم الجنس باعتبار طبعه، وإلا فكثير منهم يقنع بما أعطي، ولا يطلب زيادة، ولكن ذلك عارض له من الهداية إلى التوبة كما يومئ إليه قوله: (ويتوب الله على من تاب) ، أي: يقبل التوبة من الحرص المذموم ومن غيره، أو تاب بمعنى، وفق، أي: وفقه; يعني جبل الآدمي على حب الحرص، إلا من وفقه الله تعالى، وعصمه، فوضع يتوب موضع إلا من عصم الله; إشعارا بأن هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بالتوفيق، وفي ذكر ابن آدم دون الإنسان إيماء إلى أنه خلق من تراب؛ طبعه القبض واليبس، وإزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه من غمامة توفيقه، وهذا اللفظ أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي كعب، إلا أنه قال: لو كان للإنسان واديان من المال، وفيه: ثم يتوب، والباقي سواء .

ورواه الطيالسي، وأحمد، والدارمي، والشيخان، والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب، وابن حبان من حديث أنس، ورواه البخاري في التاريخ، والبزار، والروياني، وأبو عوانة، والضياء من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، رفعه .

ورواه أحمد، والشيخان من حديث ابن عباس، ورواه البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن الزبير، ورواه الطبراني في الكبير، والضياء من حديث سعد بن أبي وقاص، ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، ولفظهم جميعا: لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وروى أحمد، وأبو علي، وأبو عوانة، وابن حبان، والضياء من حديث جابر بلفظ: لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله، ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، قال الهيثمي: رجال أبي يعلى، والبزار رجال الصحيح، وقال ابن حبان: تفرد الأعشى بقوله: من نخل، وروى ابن عساكر من حديث أبي هريرة: لو أن للإنسان واديين من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

(وعن أبي واقد) الحرث بن مالك (الليثي) المدني - رضي الله عنه - مات سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح، روى له الجماعة، وعنه أبو مرة مولى عقيل بن أبي طالب (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه أتيناه يعلمنا مما أوحي إليه، فجئته ذات يوم، فقال: إن الله - عز وجل - يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا من ذهب لأحب أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني: لأحب أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) .

قال العراقي: رواه أحمد، والبيهقي في الشعب بسند صحيح. انتهى .

قلت: وكذلك رواه الطبراني في الكبير، والضياء، وروى الطبراني فيه من حديث أبي أمامة: لو أن لابن آدم واديين لتمنى واديا [ ص: 158 ] ثالثا، وما جعل المال إلا لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولا يشبع ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

ورواه الحسن بن سفيان، وأبو نعيم في الحلية بلفظ: كنا نأتي النبي - صلى عليه وسلم -، فإذا نزل عليه شيء من القرآن أخبرنا به، فقال لنا ذات يوم: قال الله تعالى: إنا أنزلنا المال... الحديث .

(وقال أبو موسى الأشعري) - رضي الله تعالى عنه - (نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، وحفظ منها: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) .

قال العراقي: رواه مسلم مع اختلاف دون قوله: إن الله يؤيد هذا الدين، ورواه بهذه الزيادة الطبراني، وفيه علي بن زيد متكلم فيه. انتهى .

قلت: الجملة الأولى من الحديث قد رواها النسائي، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، والضياء من حديث أنس، ورواه أحمد، والطبراني في الكبير من حديث أبي بكرة، ورواه البزار من حديث كعب بن مالك.

(وقال صلى الله عليه وسلم: منهومان لا يشبعان: منهوم العلم، ومنهوم المال) النهمة شدة الحرص على الشيء، ومنه المنهوم من الجوع كما في النهاية .

قال الطيبي: إن ذهب في الحديث إلى الأصل كان لا يشبعان استعارة لعدم انتهاء حرصهما، وإن ذهب إلى الفرع يكون تشبيها; جعل أفراد المنهوم ثلاثة; أحدها: المعروف، وهو المنهوم من الجوع، والآخران: من العلم، والدنيا، وجعلهما أبلغ من التعارف، ولعمري إنه كذلك، وإن كان المحمود منهما هو العلم، ومن ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: وقل رب زدني علما ويعضده قول ابن مسعود عقبه: ولا يستويان .

أما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، وأما صاحب العلم فيزداد من رضا الرحمن، وقال: الراغب: النهم بالعلم استعارة، وهو أن يحمل على نفسه ما تقصر قواها عنه، فينبت، والمنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وقال الماوردي: في الحديث تنبيه أن العلم يقتضي مما بقي منه، ويستدعي ما تأخر عنه، وليس للراغب فيه قناعة ببعضه .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف. انتهى .

قلت: لفظ الطبراني: منهومان لا يشبع طالبهما: طالب علم، وطالب الدنيا، ولفظه من حديث ابن عباس: منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم لا يقضي نهمته، ومنهوم في طلب الدنيا لا يقضي نهمته ، وهكذا رواه أيضا ابن خيثمة في كتاب العلم، وقد رواه ابن عدي ، والقضاعي من حديث حميد ، عن أنس بلفظ: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا، قال ابن عدي: فيه محمد بن يزيد كان يسرق الحديث، فيحدث بأشياء منكرة، ومن ثم قال ابن الجوزي في العلل: حديث لا يصح، وقد رواه كذلك البزار من حديث ابن عباس، وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف، ورواه الحاكم من طريق قتادة، عن أنس بلفظ: منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع ، وقد رواه كذلك ابن عدي ، عن الحسن مرسلا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: يهرم ابن آدم) ، أي: يكبر (وتشب) ، وفي رواية: تبقى (منه) خصلتان (اثنتان) استعارة يعني تستحكم الخصلتان في قلب الشيخ كاستحكام قوة الشباب في شبابه (الأمل، وحب المال) ، وفي نسخة: وحب الدنيا، والرواية: الحرص، وطول الأمل، وفي أخرى: الحرص، والأمل، وفي أخرى: الحرص على المال، والحرص على العمر، وفي أخرى: حب الدنيا، وطول العمر والأمل، وكأن المصنف راعى ذلك، فتأدب، وقال: (أو كما قال) صلى الله عليه وسلم، وإنما لم تكبر هاتان الخصلتان; لأن المرء جبل على حب الشهوات، وإنما تنال هي بالمال، والعمر والنفس معدن الشهوات، وأمانيها لا تنقطع، فهي أبدا فقيرة لتراكم الشهوات عليها قد برح بها خوف القوت، وضيق عليها، فهي مفتونة بذلك، وخلصت فتنتها إلى القلب فأصمته عن الله وأعمته .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أنس.

قلت: وكذا رواه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، ولفظهم جميعا: يهرم ابن آدم، ويبقى منه اثنتان: الحرص، والأمل.

وأخرجه الشيخان تعليقا، وفي رواية ابن ماجه: وطول الأمل، ورواه الطيالسي، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان بلفظ: وتشب منه اثنتان: الحرص إلى المال، والحرص على العمر.

وقد رواه بهذا اللفظ من حديث سمرة، وفي لفظ للبخاري: لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب المال، وطول الأمل.

(ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة، وغريزة مهلكة أثنى الله تعالى، ورسوله) صلى الله عليه وسلم (على القناعة، فقال - صلى عليه وسلم -: طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به) .

قال العراقي:

[ ص: 159 ] رواه الترمذي، وصححه النسائي في الكبير من حديث فضالة بن عبيد، ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو: قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه. ا ه .

قلت: حديث فضالة بن عبيد أخرجه أيضا ابن المبارك، والطبراني في الكبير، والحاكم، وابن حبان، وروى البيهقي من حديث ابن الحويرث، والديلمي من حديث عبد الله بن الحرث: طوبى لمن رزقه الله الكفاف، ثم صبر عليه.

وحديث عبد الله بن عمر أخرجه أيضا أحمد، والترمذي، وابن ماجه، ورواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب بلفظ: قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافا، وصبر على ذلك.

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد - غني ولا فقير - إلا ود يوم القيامة أنه كان أوتي قوتا في الدنيا) .

قال العراقي: رواه ابن ماجه من رواية نفيع بن الحرث، عن أنس، ونفيع ضعيف. ا ه .

قلت: ورواه أيضا أحمد، وعبد بن حميد، وأبو نعيم في الحلية بلفظ: ما من أحد يوم القيامة - غني ولا فقير - إلا ود إنما كان أوتي من الدنيا قوتا، ورواه ابن الجوزي في الموضوعات: فأفرط، وروى أبو نعيم في الحلية من طريق أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: ما أحد من الناس يوم القيامة إلا يتمنى أنه كان يأكل في الدنيا قوتا.

(وقال صلى الله عليه وسلم: ليس الغنى) بالكسر مقصورا، أي: الحقيقي النافع المفيد (عن كثرة العرض) محركة - كما في المشارق -، وبفتح، وسكون كما في المقاييس لابن فارس، والمراد به متاع الدنيا قيل، وكأنه أراد بالعرض مقابل الجوهر، وعند أهل السنة: ما لا يبقى زمانين، فشبه به متاع الدنيا في سرعة زواله، وعدم بقائه; يعني ليس الغنى المحمود ما حصل عن كثرة المتاع; لأن كثيرا ممن وسع الله عليه لا ينتفع بما أوتي، بل هو متجرد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، فالفقير حريص ذاتي (إنما الغنى) المحمود المعتبر عند أهل الكمال (غنى النفس) ، أي: استغناؤها بما قسم لها، وقناعتها ورضاها، وفي رواية: ولكن الغنى، وفي أخرى: غنى القلب بدل: غنى النفس .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة.

قلت: ورواه كذلك أحمد، وهناد بن السري، والترمذي، وابن ماجه، ورجال أحمد رجال الصحيح، ورواه أيضا أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، والضياء من حديث أنس، وروى الديلمي بلا سند من حديث أنس: الغنى غنى النفس، والفقر فقر النفس، وروى العسكري في الأمثال من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ذر في حديث أوله: يا أبا ذر، أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب.

(ونهى) صلى الله عليه وسلم (عن شدة الحرص) في الدنيا (و) عن المبالغة في الطلب لأعراضها الزائلة (فقال: ألا أيها الناس، أجملوا في الطلب، فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له، ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة) .

رواه الحاكم من حديث جابر بنحوه، وصححه، وقد تقدم في آداب الكسب والمعاش، وروى ابن ماجه، والحاكم، والطبراني، والبيهقي من حديث أبي حميد الساعدي: أجملوا في طلب الدنيا، فإن كل ميسر لما كتب له.

وعند ابن عساكر من حديث ابن عمر: أجملوا في طلب الدنيا، فإن الله قد تكفل بأرزاقكم.

(وروي أن موسى - عليه السلام - سأل ربه تعالى، فقال: أي رب: أي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم بما أعطيته، قال: فأيهم أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه) نقله صاحب القوت .

(وقال ابن مسعود) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب) ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوا شيئا من فضل الله بمعصية الله، فإنه لن ينال ما عند الله إلا بطاعته .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة، والعسكري في الأمثال، والحاكم بهذا اللفظ إلى قوله: إلا بطاعة، وليس عندهم: فاتقوا الله، وإنما فيه: فأجملوا، وقالوا: حتى تستوفي بدل تستكمل .

ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة، وفيه: حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب.

والباقي سواء، وقد تقدم في آداب الكسب والمعاش، وكذا الكلام في النفث في الروع .

(وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اشتد بك الجوع، فعليك برغيف، وكوز من ماء، وعلى الدنيا الدمار) .

أغفله العراقي، وقد تقدم ذكره في كتاب رياضة النفس، وهو في الكامل لابن عدي في ترجمة ماضي بن محمد بن مسعود الغافقي بلفظ: يا أبا هريرة، إذا اشتد كلب الجوع [ ص: 160 ] فعليك برغيف، وجر من ماء القراح، وقل على الدنيا وأهلها مني الدمار، ورواه البيهقي أيضا كذلك .

(وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك تكن مؤمنا) ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب .

رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في الشعب من رواية وائل، عن أبي هريرة.

ورواه الخرائطي أيضا من حديث أبي الدرداء بلفظ: يا أبا الدرداء، أحسن جوار من جاورك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، وارض بقسمة الله لك تكن من أغنى الناس.

وسنده ضعيف، وقد تقدم الكلام عليه في آداب الصحبة .

(ونهى صلى الله عليه وسلم عن الطمع، فيما رواه أبو أيوب الأنصاري) - رضي الله عنه - (أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عظني وأوجز، فقال: إذا صليت فصل صلاة مودع، ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غدا، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس) .

رواه ابن ماجه في الزهد من سننه من طريق عثمان بن جبير مولى أبي أيوب عنه، ولفظه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني، وأوجز، قال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ، ولا تكلم بكلام يعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس.

ورواه ابن عساكر في التاريخ هكذا، ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق مقتصرا على الجملتين، وفي الأمثال للعسكري من طريق القعنبي: حدثنا محمد بن أبي حية، حدثني إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده أن رجلا قال: يا رسول الله، أوصني وأوجز، فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، فإنه الغنى، وإياك والطمع، فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما يعتذر منه.

وأخرجه أبو نعيم في المعرفة من حديث ابن أبي فديك، عن حماد بن أبي حميد، وهو لقب محمد به، وقال: إن رجلا من الأنصار .

ورواه الحاكم في الرقاق من صحيحه من حديث أبي عامر العقدي، حدثنا محمد بن أبي حميد مثله بدون تعيين كونه من الأنصار، وقال: إنه صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقب بأن ابن أبي حميد مجمع على ضعفه، ويروى نحوه عن جابر مرفوعا .

أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: إياكم والطمع، فإنه هو الفقر، وإياكم وما يعتذر منه.

وعن ابن عمر، أخرجه القضاعي في مسنده من طريق ابن منيع، حدثنا الحسن بن راشد بن عبد ربه، حدثني أبي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، حدثني حديثا، واجعله موجزا لعلي أعيه، فقال صلى الله عليه وسلم: صل صلاة مودع كأنك لا تصلي بعدها، وأيس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه.

وكذا هو في السادس من فوائد المخلص: حدثنا عبد الله - هو البغوي - ابن بنت أحمد بن منيع، حدثنا ابن راشد به .

وأخرج العسكري عن ابن منيع أيضا، ورواه الطبراني في الأوسط، عن البغوي، حدثنا الحسن بن علي الواسطي، عن ابن أبي راشد، أخبرني أبي راشد، عن عبد الله، عن نافع، سمعت ابن عمر، وذكر نحوه بلفظ: صلاة مودع، فإنك إن كنت لا تراه، فإنه يراك.

ورواه الدارقطني في الأفراد، وسمى ابن راشد الحسن كالجمهور، وقال: إنه غريب من حديث نافع، عن ابن عمر، تفرد به راشد عنه، ولم يروه عنه غير ابنه الحسن.

وعن سعد بن عمارة، أخرجه الطبراني في الكبير من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيره، عن سعد بن عمارة، أخي بني سعد بن بكر، وكانت له صحبة أن رجلا قال له: عظني في نفسي يرحمك الله، قال: إذا انتهيت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، فإنه لا صلاة لمن لا وضوء، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثم إذا صليت فصل صلاة مودع، واترك طلب كثير من الحاجات، فإنه فقر حاضر، وأجمع اليأس مما هو في أيدي الناس، فإنه هو الغنى، وانظر مما يعتذر منه من القول والفعل فاجتنبه.

وهو موقوف، وكذا أخرج البخاري في التاريخ من طريقين إلى ابن إسحاق، قال في إحداهما: إنه سعد، وفي الأخرى: إنه سعيد، ورجح أنه سعد.

وأخرجه أحمد في كتاب الإيمان، والطبراني، ورجاله ثقات، وقد تقدم ذلك في كتاب أسرار الصلاة مختصرا (وقال عوف بن مالك) بن أبي عوف (الأشجعي) الغطفاني، أبو حماد - رضي الله عنه - من مسلمة الفتح، وتحول إلى الشام في خلافة أبي بكر، فنزل حمص، وبقي إلى أول خلافة عبد الملك بن مروان، ومات سنة ثلاث [ ص: 161 ] وسبعين، روى له الجماعة: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: أوليس قد بايعناك يا رسول الله؟ ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل منا: قد بايعناك، فعلى ماذا نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئا، قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديثه، ولم يقل، فقال قائل، ولا قال: وتسمعوا، وقال: سوط أحدهم، وهي عند أبي داود، وابن ماجه كما ذكرها المصنف. ا ه .

قلت: وعزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى مسلم، والنسائي، والطبراني في الكبير، وابن حبان، ولفظهم: ألا تبايعون على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وأن تقيموا الصلوات الخمس، وتؤتوا الزكاة، وتسمعوا، وتطيعوا، ولا تسألوا الناس شيئا؟




الخدمات العلمية