الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ونقل المروذي فيمن يطلب العلم وتأذن له والدته وهو يعلم أن المقام أحب إليها ، قال إن كان جاهلا لا يدري كيف يطلق ولا يصلي فطلب العلم أحب إلي ، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إلي ، وهذا [ ص: 525 ] لعله يوافق على أفضلية الجهاد ما سبق من رواية حرب وابن هانئ ، وكلام الأصحاب هنا يدل على أن من العلم ما يقع نفلا ، وجزم به في الرعاية في الجهاد في طلب العلم بلا إذن ، وصرح به من الأئمة إسحاق ، نقله ابن منصور ، لأنه لا تعارض بين نفل وواجب ، فيجب من القرآن ما يجزي الصلاة ، وهو الفاتحة على المذهب ، ونقل الشالنجي أقل ما يجب الفاتحة وسورتان ، وهو بعيد ، لم أجد له وجها ، ولعله غلط ، وذكر ابن حزم أنهم اتفقوا أن حفظ شيء منه واجب ، وأنه لا يلزمه حفظ أكثر من البسملة والفاتحة وسورة معها ، وعلى استحسان حفظ جميعه ، وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية ، ويأتي ذلك في الباب ، قال أحمد : ويجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ، قيل له : فكل العلم يقوم به دينه ، قال : الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه ، قيل مثل أي شيء ؟ قال الذي لا يسعه جهله : صلاته ، وصيامه ، ونحو ذلك ، ومراد أحمد ما يتعين وجوبه ، وإن لم يتعين ففرض كفاية ، وذكره الأصحاب ومنع الآمدي في خلو الزمان عن مجتهد كون التفقه في الدين من فروض الكفايات ; اكتفاء برجوع العوام إلى المجتهدين في العصر السابق ، وهذا غريب ، فمتى قامت طائفة بما لا يتعين وجوبه قامت بفرض كفاية ثم من تلبس به نفل في حقه ، ووجوبه مع قيام غيره دعوى تفتقر إلى دليل ، وصرح بعض الحنفية والشافعية بأنه فرض كفاية ، وأنه لا يقع نفلا ، وأنه إنما كان أفضل لأن فرض الكفاية أفضل من النفل ، ولعل المراد ما لم يكن النفل سببا فيه ، فإن ابتداء السلام أفضل من رده للخبر ، [ ص: 526 ] وجعل بعض الشافعية ذلك حجة في أن صلاة الجنازة المتكررة فرض كفاية كما يأتي عنهم ، وصرح به بعضهم في رد السلام المتكرر ، ولم أجد ما قاله الشافعية في غير ذلك ، ولا الحنفية إلا في العلم ويأتي كلام شيخنا في صلاة الجنازة أن فرض الكفاية إذا فعل ثانيا أنه فرض كفاية في أحد الوجهين ، فعلى هذا لا مدخل له هنا ، وكذا الجهاد ، وسيأتي والله أعلم ، وقد ذكر شيخنا أن تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه من نوع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات ، قال : والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول : أفضل ما تطوع به الجهاد ، وذلك لمن أراد أن ينشئه تطوعا باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه ، باعتبار أن الفرض قد سقط عنه ، فإذا باشره وقد سقط الفرض فهل يقع فرضا أو نفلا ؟ ؟ على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره ، وابتنى على الوجهين جواز فعلها بعد العصر ، والفجر مرة ثانية والصحيح أن ذلك يقع فرضا ، وأنه يجوز فعلها بعد العصر والفجر ، وإن كان ابتداء الدخول فيها تطوعا كما في التطوع الذي لزم بالشروع فإنه كان نفلا ، ثم يصير إتمامه واجبا ، وليحذر العالم ويجتهد فإن دينه أشد . نقل المروذي : العالم يقتدى به ، ليس العالم مثل الجاهل ، ومعناه لابن المبارك وغيره .

                                                                                                          وقال الفضيل بن عياض : يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد .

                                                                                                          وقال شيخنا : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ، فذنبه من جنس ذنب اليهود ، والله أعلم ، وفي آداب عيون المسائل : العلم أفضل الأعمال ، وأقرب العلماء إلى الله وأولاهم به أكثرهم له خشية ، وذكر [ ص: 527 ] أكثر الأصحاب بعد الجهاد والعلم الصلاة ( ش ) في تقديمها ، للأخبار في أنها أحب الأعمال إلى الله وخيرها ، ولأن مداومته عليه السلام على نفلها أشد ، ولقتل من تركها تهاونا ; ولتقديم فرضها ، وإنما أضاف الله تعالى إليه الصوم في قوله { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به } فإنه لم يعبد به غيره في جميع الملل ، بخلاف غيره ، وإضافة عبادة إلى غير الله قبل الإسلام لا توجب عدم أفضليتها في الإسلام ، فإن الصلاة في الصفا والمروة أعظم منها في مسجد من مساجد قرى الشام ( ع ) وإن كان ذلك المسجد ما عبد به غير الله قط ، وقد أضافه إليه بقوله { وأن المساجد لله } فكذا الصلاة مع الصوم ، وقيل أضاف الصوم إليه لأنه لا يطلع عليه غيره ، وهذا لا يوجب أفضليته فإن من نوى صلة رحمه وأن يصلي ويتصدق ويحج كانت نيته عبادة يثاب عليها ، ونطقه بما يسمعه الناس من كلمة التوحيد أفضل ( ع ) { وسأله عليه السلام رجل : أي العمل أفضل ؟ قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له } إسناده حسن ، رواه أحمد والنسائي من حديث أبي أمامة ، فإن صح فما سبق أصح ، ثم يحمل على غير الصلاة ، أو بحسب السائل ، وقيل الصوم ، قال أحمد : لا يدخله رياء ، قال بعضهم : وهذا يدل على أفضليته على غيره ، ونقل المروذي ويوسف بن موسى في رجل أراد أن يصوم تطوعا فأفطر لطلب العلم ، فقال : إذا احتاج إلى طلب العلم فهو أحب إلي .

                                                                                                          وقال ابن شهاب : أفضل ما تعبد به المتعبد الصوم ، وقيل ما تعدى نفعه ، وحمل صاحب المحرر وغيره أفضلية الصلاة على النفع القاصر كالحج ، وإلا فالمتعدي [ ص: 528 ] أفضل ، نقل المروذي إذا صلى واعتزل فلنفسه ، وإذا قرأ فله ، ولغيره يقرأ أعجب إلي ، وعن أبي الدرداء مرفوعا { ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ ؟ قالوا : بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، ونقل حنبل " اتباع الجنازة أفضل من الصلاة " ، وفي بعض كلام القاضي أن التكسب للإنسان أفضل من التعلم ، لتعديه ، وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره أن الطواف أفضل من الصلاة فيه .

                                                                                                          وقال شيخنا ، وذكره عن جمهور العلماء للخبر ، وقد نقل حنبل : نرى لمن قدم مكة أن يطوف ، لأنه صلاة ، والطواف أفضل من الصلاة ، والصلاة بعد ذلك وعن ابن عباس الطواف لأهل العراق ، والصلاة لأهل مكة ، وكذا عطاء ، هذا كلام أحمد وذكر أحمد في رواية أبي داود عن عطاء والحسن ومجاهد الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف أفضل للغرباء ، فدل ما سبق أن الطواف أفضل من الوقوف بعرفة لا سيما وهو عبادة بمفرده ، يعتبر له ما يعتبر للصلاة غالبا ; وقيل الحج أفضل ، لأنه جهاد وقالت عائشة { يا رسول الله ، هل على النساء جهاد ؟ قال ؟ عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة } إسناده صحيح ، رواه أحمد وابن ماجه .

                                                                                                          ولأحمد والبخاري عنها { يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد ؟ قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور } .

                                                                                                          وروى أبو يعلى الموصلي عن سناد بن فروخ وجماعة قالوا : ثنا القاسم بن الفضل ، عن محمد بن علي ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { الحج جهاد كل ضعيف } ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة [ ص: 529 ] عن وكيع ، عن القاسم كلهم ثقات ، ورواه أحمد عن محمد بن علي هو الباقر ، ولد سنة ست وخمسين ، وماتت أم سلمة في ولاية يزيد ، ففي سماعه منها نظر ، .

                                                                                                          وعن أبي هريرة مرفوعا { جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة : الحج والعمرة } رواه النسائي ، وعن بريدة مرفوعا { النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله } رواه أحمد ولأحمد وأبي داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبرني رسول مروان إلى أم معقل عنها مرفوعا { الحج والعمرة في سبيل الله } وعن أم معقل أيضا مرفوعا { الحج في سبيل الله } رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق بصيغة ( عن ) فظهر من ذلك أن نفل الحج أفضل من صدقة التطوع ، ومن العتق ، ومن الأضحية ويأتي ذلك في صدقة التطوع والأضحية والعتق ، وعلى ذلك إن مات في الحج فكما لو مات في الجهاد ، ويكون شهيدا روى أبو داود ثنا عبد الوهاب بن نجدة ، حدثنا بقية عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبي بردة إلى مكحول ، إلى عبد الرحمن بن غنيم الأشعري أن أبا مالك الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد ، أو وقصه فرسه أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد ، وإن له الجنة } " بقية " مختلف فيه ، وفيه تدليس وهو إن شاء الله حديث حسن ، وقوله " فصل " خرج ، وعلى هذا فالموت في طلب العلم أولى بالشهادة على ما سبق وللترمذي وقال حسن غريب ، عن أنس مرفوعا { من خرج في [ ص: 530 ] طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع } وظاهر كلام أحمد والأصحاب وبقية العلماء أن المرأة كالرجل في استحباب التطوع بالحج لما سبق .

                                                                                                          وقال ابن عباس : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يأيها الناس ، كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع } حديث صحيح ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .

                                                                                                          ولأبي داود ، عن النفيلي عن عبد العزيز بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن أبي واقد الليثي عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع { هذه ثم ظهور الحصر } رواه أحمد عن سعيد بن منصور عن عبد العزيز بن زيد ، عن واقد بن أبي واقد ، عن أبيه فذكره وقد تفرد عنه زيد .

                                                                                                          وقال بعضهم الخبر منكر ، فما زلن يحججن ، وعن أبي هريرة مرفوعا مثله ، قال : فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة ، وكانت تقول : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عن يزيد ، أظنه عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة عنه .

                                                                                                          وقال أحمد حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج بنسائه ، قال إنما هي هذه ، ثم الزمن ظهور الحصر } صالح صالح الحديث ، قاله أحمد ، ووقفه ابن معين وغيره ، وضعفه أبو داود والنسائي وغيرهما .

                                                                                                          وقال ابن عدي لا بأس إذا سمعوا منه [ ص: 531 ] قديما ، مثل ابن أبي ذئب وظهور بضم الظاء المعجمة .

                                                                                                          وقال ابن الأثير : أي إنكن لا تعدن تخرجن ، وتلزمن الحصر ، هي جمع الحصير التي تبسط في البيوت بضم الصاد ، وتسكن تخفيفا . وفي البخاري عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جده " أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها ، يعني في الحج ، وبعث معهن عبد الرحمن ، يعني ابن عوف وعثمان بن عفان ، نقل أبو طالب ليس أشبه الحج شيء ; للتعب الذي فيه ، ولتلك المشاعر ، وفيه مشهد ليس في الإسلام مثله ، وعشية عرفة ، وفيه إنهاك المال ، والبدن ، وإن مات بعرفة فقد طهر من ذنوبه ، واختار شيخنا أن كل واحد بحسبه ، فإن الذكر بالقلب أفضل من الغزاة بلا قلب ، وهو يعني كلام ابن الجوزي فإنه قال : أصوب الأمور أن ينظر إلى ما يطهر القلب ويصفيه للذكر والأنس فيلازمه . وفي رد شيخنا على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم ، والتحقيق : لا بد لكل من الآخرين ، وقد يكون كل واحد أفضل في حال ، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم بحسب الحاجة والمصلحة ، ويوافق ما سبق قول إبراهيم بن جعفر لأحمد : الرجل يبلغني عنه صلاح ، أفأذهب أصلي خلفه ؟ قال أحمد انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله .

                                                                                                          وقال أبو الحسين بن سمعون من أصحابنا : وسأله البرقاني أيها الشيخ ، تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا ، وتلبس أحسن الثياب ، تأكل أطيب الطعام ، فكيف هذا ؟ قال : كل ما يصلحك مع الله فافعله ، وقد نقل عنه مثنى : أفضلية الفكرة على [ ص: 532 ] الصلاة والصوم ، فقد يتوجه أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح ، ويكون مراد الأصحاب عمل الجوارح ، وروى أحمد ، وأبو داود من رواية يزيد بن زياد عن مجاهد ، عن رجل عن أبي ذر مرفوعا { أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال قائل : الصلاة والزكاة ، وقائل : الجهاد ، قال : أحب الأعمال إلى الله ، الحب في الله ، والبغض في الله } { وسأل عليه السلام أي عرى الإسلام أوثق ؟ قالوا الصلاة ، والزكاة ، وصيام رمضان ، قال : لا ، أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله } رواه أحمد ، وغيره ، من حديث البراء ، ولهذا ذكر في الفنون رواية مثنى فقال : يعني الفكرة في آلاء الله ، ودلائل صنعه ، والوعد والوعيد ، لأنه الأصل الذي يفتح أبواب الخير ، وما أثمر الشيء فهو خير من [ أجل ] ثمرته .

                                                                                                          وقال في الفنون أيضا : لو لم يكن مقاساة المكلف إلا لنفسه لكفاه ، إلى أن قال : فكفى بك شغلا أن تصح وتسلم ، وتداوي بعضك ببعض ، فذلك هو الجهاد الأكبر ، لأنه مغالبة المحبوبات ، لأنك إذا تأملت ما يكابد المعاني ، لهذه الطباع المتغالبة وجدته القتل في المعنى ، لأنه إن ثار غضبه كلف بتبريد تلك النار المضطرمة بالحلم ، وإن تكلبت الطباع لاستيفاء لذة مع تمكن قدرة وخلوة كلف بتقليص أدوات الامتداد باستحضار زجر الحكمة والعلم ورهبة وعيد الحق ، وإن ثار الحسد كلف القنوع بالحال وترك مطالعة أحوال الأغيار ، وإن غلب الحقد وطلب التشفي من البادئ بالسوء كلف تغيير الحقد باستحضار العفو ، وإن ثار الإعجاب والمباهاة لرؤية الخصائص التي في النفس كلف استحضار لطيفة من التواضع والعطاء [ ص: 533 ] للجنس ، وإن استحلت النفس الاستماع إلى اللغو كلف استحضار الصيانة عن الإصغاء إلى داعية الشهوة واللهو ، هذا وأمثاله هو العمل ، والناس عنه بمعزل ، لا يقع لهم أن العمل سوى ركعات يتنفل بها الإنسان في جوف الليل ، تلك عبادة الكسالى العجزة ، إنما تمييز الإنسان بهذه المقامات التي تنكشف فيها الأحوال . من وصل إلى هذه المقامات فقد رقي إلى درجة الصديقين ، وإلا فكل أحد إذا خلا بنفسه ، وسكنت طباعه لم يصعب عليه رطل من الماء ، واستقبال المحراب ، لكن ما وراء ذلك هو العمل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فما تنفع صلاة الليل مع التبتل : للقبح بالنهار ، وما تنفع إدارة السبحة بالغدوات في المساجد والمسلمون قتلى أفعالك طول النهار : أموالها في الأسواق ، وأعراضها في المساطب ، من يتخبطه شيطانه بأنواع التخبيط ، ويتلاعب به في الليل والنهار كل التلاعب لا يستحسن منه ركيعات في جوف الليل ، قد قنع منك بالفروض الموظوفة مع سلامة الناس من يدك ولسانك ويأتي كلامه في عدد الشهداء ، وهذا ظاهر المنهاج ، فإن فيه من انفتح له طريق عمل بقلبه بدوام ذكر أو فكر ، فذلك الذي لا يعدل به ألبتة ، وظاهره أن العالم بالله وبصفاته أفضل من العالم بالأحكام الشرعية ، لأن العلم يشرف بشرف معلومه ، وبثمراته ، فكل صفة توجب حالا : ينشأ عنها أمر مطلوب ، فمعرفة سعة الرحمة تثمر الرجاء ، وشدة النقمة تثمر الخوف الكاف عن المعاصي ، وتفرده بالنفع والضرر يثمر التوكل عليه وحده ، والمحبة له والهبة ومعرفة الأحكام لا تثمر ذلك ، والمتكلم الأصولي لا تدوم [ ص: 534 ] له هذه الأحوال غالبا ، وإلا لكان عارفا ، ويؤيد هذا قول أحمد عن معروف : وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف ؟ ؟ وقال أيضا عنه : كان معه رأس العلم : خشية الله . وفي خطبة كفاية ابن عقيل ، إنما شرف العلوم بحسب مؤدياتها ، ولا أعظم من المبادئ ، فيكون العلم المؤدي إلى معرفته ، وما يجب له وما يجوز أجل العلوم . والأشهر عن أحمد الاعتناء بالحديث ، والفقه ، والتحريض على ذلك عجيب ممن يحتج بالفضيل ، وقال : لعل الفضيل قد اكتفى وقال : لا يتثبط عن طلب العلم إلا جاهل ، وقال : ليس قوم خيرا من أهل الفقه ، وعاب على محدث لا يتفقه ، وقال : يعجبني أن يكون الرجل فهيما في الفقه ، قال شيخنا ، قال أحمد معرفة الحديث والفقه فيه أعجب إلى من حفظه ، وفي خطبة مذهب ابن الجوزي بضاعة الفقه أربح البضائع ، وفي كتاب العلم له الفقه عمدة العلوم وفي صيد الخاطر له الفقه عليه مدار العلوم ، فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه ، فإنه الأنفع ، وفيه المهم من كل علم ، هو المهم وقال في كتابه السر المصون : تأملت سبب الفضائل فإذا هو علو الهمة ، وذلك أمر مركوز في الجبلة لا يحصل بالكسب ، وكذلك خسة الهمة ، وقد قال الحكماء : تعرف همة الصبي من صغره ، فإنه إذا قال للصبيان من يكون معي ؟ دل على علو همته ، وإذا قال مع من أكون ؟ دل على خستها ، فأما الخسة فالهمم فيها درجات منهم من ينفق عمره في جمع المال ولا يحصل شيئا من العلم ، ومنهم من يضم إلى ذلك البخل ، ومنهم من رضي بالدون في المعاش ، وأخسهم الكساح ، فأما [ ص: 535 ] علو الهمة في الفضائل فقوم يطلبون الرئاسة ، وكان أبو مسلم الخراساني عالي الهمة في طلبها ، وكانت همته الرضاء في طلب الخلافة ، وكان المتنبي يصف علو همته ، وما كانت إلا التكبر بما يحسنه من الشعر ، ومن الناس من يرى أن غاية المراتب الزهد فيطلبه ، ويفوته العلم ، فهذا مغبون ، لأن العلم أفضل من الزهد ، فقد رضي بنقص وهو لا يدري ، وسبب رضاه بالنقص قلة فهمه ، إذ لو فهم لعرف شرف العلم على الزهد ، ومنهم من يقول : المقصود من العلم العمل ، وما يعلم هذا أن العلم عمل القلب ، وذاك أشرف من عمل الجوارح ، ومن طلبة العلم من تعلو همته إلى فن من العلوم فيقتصر عليه وهذا نقص ، فأما أرباب النهاية في علو الهمة فإنهم لا يرضون إلا بالغاية ، فهم يأخذون من كل فن من العلم مهمه ، ثم يجعلون جل اشتغالهم بالفقه ، لأنه سيد العلوم ، ثم ترقيهم الهمم العالية إلى معاملة الحق ومعرفته ، والأنس به ، وقيل ما هم هذا كلامه . وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى : عليك بالفقه ، فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه ، وأملى الشافعي على مصعب الزبيري أشعار هذيل ووقائعها ، وآدابها حفظا ، فقال له : أين أنت بهذا الذهن عن الفقه ؟ فقال : إياه أردت .

                                                                                                          وقال أحمد عن الشافعي : إنما كانت همته الفقه .

                                                                                                          وقال أبو حنيفة : ليس شيء أنفع من الفقه وقال محمد بن الحسن : كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه ، وينهانا عن الكلام ، وفي خطبة المحيط للحنفية : أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه .

                                                                                                          وقال العقلاء : ازدحام العلوم ، مضلة للفهوم .

                                                                                                          وقال البخاري لأبي العباس الوليد بن إبراهيم [ ص: 536 ] وقد جاء إليه لأجل معرفة الحديث فقال له : يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده ، والوقوف على مقاديره ، فقلت له : عرفني ، فقال : اعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا في حديث إلا بعد كذا وكذا وذكر أشياء كثيرة يطول ذكرها ، قال فهالني قوله ، قال وسكت متفكرا وأطرقت نادما ، فلما رأى ذلك مني قال لي : فإن كنت لا تطيق احتمال هذه المشاق كلها فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه ، وأنت في بيتك قار ساكن ، كي لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، وطي الديار ، وركوب البحار ، وهو مع ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة ، ولا عزه له بأقل من عز المحدث ، فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث ، وأقبلت على علم ما أمكنني من عمله بتوفيق الله تعالى ومنه .

                                                                                                          وقال الشافعي : ما ناظرت ذا فن إلا وقطعني ، وما ناظرت ذا فنون إلا قطعته ، وقال الأصمعي : ما أعياني إلا المنفرد .

                                                                                                          وقال المبرد : ينبغي لمن يحب العلم أن يفتن في كل ما يقدر عليه من العلوم ، إلا أنه يكون مفردا غالبا ، عليه علم منها ، يقصده بعينه ويبالغ فيه ، قال أبو جعفر النحاس : هذا من أحسن ما سمعت في هذا .

                                                                                                          وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا { تجدون الناس معادن ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والناس تبع لقريش في هذا الشأن : مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم . }

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          الخدمات العلمية