الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جرد القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك قال: ثم نقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال: عجلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه .

وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : أحب عباد الله إلى الله الغرباء ، قيل : ومن الغرباء ? قال : الفارون بدينهم ، يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام .

وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده : « ألم أنعم عليك ؟! ألم أسترك ؟! ألم أخمل ذكرك » وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك ، واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك ، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك .

وقال الثوري وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء .

وقال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني يوما في الدنيا قط إلا مرة ؛ بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد .

وقال الفضيل إن قدرت على أن لا تعرف فافعل .

وما عليك أن لا تعرف ، وما عليك أن لا يثنى عليك ، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة ، وفضيلة الخمول .

وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه ، والمنزلة في القلوب ، وحب الجاه هو منشأ كل فساد .

فإن قلت : فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف فاتهم فضيلة الخمول ? فاعلم أن المذموم طلب الشهرة ، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم .

نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم ، كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى ، فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم ، فإنهم يتعلقون به ، فيضعف عنهم ، فيهلك معهم ، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ؛ ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك .

التالي السابق


(وقال ابن مسعود) رضي الله عنه يوصي أصحابه: (كونوا ينابيع العلم) أي: بمنزلة الينابيع التي تخرج منها المياه ولا تنقطع، فتكون بواطنكم معمورة بالعلم كعمارة الينابيع بالمياه (مصابيح [ ص: 237 ] الهدى) تضيؤون الناس بالهدى كما يستضاء بالمصابيح (أحلاس البيوت) أي: لازمين بيوتكم لزوم الحلس، وهو بالكسر الحصير الذي يفرش تحت الفرش (سرج الليل) أي: تحيون ليلكم بالعبادة وتنورونه كما يتنور بالسرج (جرد القلوب) أي: مجردين قلوبكم عن غير الله تعالى، فلا يخطر فيها ما يشغل عنه تعالى، وقد تقدم الخبر: "القلوب ثلاثة" وذكر فيه "قلب أجرد، وهو قلب المؤمن" وفي بعض النسخ: "جدد القلوب" وهو المناسب لقوله: (خلقان الثياب) أي: رثاثها (تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض) والمراد بأهل السماء الملأ الأعلى .

(وقال أبو أمامة) الباهلي رضي الله عنه (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: إن أغبط أوليائي رجل مؤمن خفيف الحاذ) أي: قليل المال، خفيف الظهر من العيال (ذو حظ من صلاة) أي: ذو راحة في مناجاة الله منها واستغراق في المشاهدة (أحسن عبادة ربه) تعميم بعد تخصيص، والمراد إجادتها على الإخلاص، فقوله (وأطاعه في السر) عطف تفسيري على أحسن (وكان غامضا في الناس) أي: مغمورا غير مشهور فيهم (لا يشار إليه) أي: لا يشير الناس إليه (بالأصابع) بيان وتقرير لمعنى الغموض (ثم صبر على ذلك) بين به أن ملاك ذلك كله الصبر، وبه يقوى على الطاعة، قال الله تعالى: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا .

(قال: ثم نقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فقال: عجلت منيته) أي: أسرع هلاكه؛ لقلة تعلقه بالدنيا، وكثرة شغفه بالآخرة (وقل تراثه) لأنه لم يتعلق بالمال فيخلفه بعده فيكون ميراثا (وقلت بواكيه) لقلة عياله، وهوانه على الناس، وعدم احتفالهم به .

فهؤلاء هم الرجال الذين حلوا من الولاية أقصى درجاتها، قد صانهم الله، وحبسهم في خيام صون الغيرة، وليس في وسع الخلق أن يقوموا بما لهذه الطائفة من الحق عليهم؛ لعلو منصبهم .

قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه بإسنادين ضعيفين. انتهى .

قلت: ولفظهما: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة والصيام، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، عجلت منيته، وقلت بواكيه، وقل تراثه".

وهكذا رواه الطيالسي، وأحمد، والطبراني، وصاحب الحلية، والحاكم، والبيهقي، وهو من رواية عبد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، وهم ضعفاء .

وقال الذهبي عقب تصحيح الحاكم له: بل هو إلى الضعف مائل .

وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح، رواته ما بين مجاهيل وضعفاء، ولا يبعد أن يكون معمولهم .

وقال ابن القطان وأخطأ من عزاه لأبي هريرة.

وأخرج مسلم في صحيحه "أن عمر بن سعد انطلق إلى أبيه سعد، وهو في غنم له خارجا من المدينة، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبت أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة، فضرب سعد صدره وقال: اسكت؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: إن أغبط أوليائي عندي" وساقه كسياق المصنف .

(وقال عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما: (أحب عباد الله إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفارون بدينهم، يجتمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام) .

وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمر: "وطوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" وفي رواية له: "الغرباء ناس قليلون صالحون" وفي سنده ابن لهيعة.

(وقال الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى: (بلغني أن الله -عز وجل- يقول في بعض ما يمن به على عبده: "ألم أنعم عليك؟! ألم أسترك؟! ألم أخمل ذكرك") أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وكان الخليل بن أحمد) الفراهيدي، إمام النحو (يقول) في دعائه: (اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني في نفسي من أوضع خلقك، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك) نقله صاحب القوت .

(وقال) سفيان (الثوري) رحمه الله تعالى: (وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى: (ما قرت عيني يوما في الدنيا قط إلا مرة واحدة؛ بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن) أي: داء الذرب (فجاء المؤذن وجرني برجلي حتى أخرجني من المسجد) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

ولفظ القشيري في الرسالة: وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات، فذكر الأولى. ثم قال: والأخرى: كنت عليلا في مسجد، فدخل المؤذن وقال [ ص: 238 ] اخرج، فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج المسجد، ثم ذكر الثالثة .

(وقال الفضيل بن عياض) رحمه الله تعالى: (إن قدرت على أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لا يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة، وفضيلة الخمول، وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه، والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد.

فإن قلت: فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء) المشهورين (فكيف فاتتهم فضيلة الخمول؟ فاعلم أن المذموم) هو (طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد) بأن يحتال على تحصيلها على أي وجه كانت (فليس بمذموم، نعم فيها فتنة على الضعفاء) منهم (دون الأقوياء، وهو كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى، فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم، فإنهم يتعلقون به، فيضعف عنهم، فيهلك معهم، وأما القوي) السابح النحرير (فالأولى به أن يعرفه الغرقى؛ ليتعلقوا به فينجيهم) وينجي نفسه (ويثاب على ذلك) .




الخدمات العلمية