الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) السحت والسحت ، بسكون الحاء وضمها : الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة ; أي : يذهبها . يقال : سحته الله ; أي : أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرئ بهما في قوله : ( فيسحتكم بعذاب ) أي : يستأصلكم يهلككم ، ومنه قول الفرزدق :


وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف



ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع [ ص: 486 ] ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبدا إلا خائفا ، وهو راجع لمعنى الهلاك .

الحبر : بفتح الحاء وكسرها ، العالم ; وجمعه الأحبار . وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء . وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح . وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار . والحبر ، بالكسر ، الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار . ويقال : كتب الحبر ، لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبرا لتحسينه الخط وتبيينه إياه . وقيل : سمي حبرا لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر .

العين : حاسة الرؤية وهي مؤنثة ، وتجمع في القلة على أعين وأعيان ، وفي الكثرة على عيون . وقال الشاعر :


ولكنني أغدو علي مفاضة     دلاص كأعيان الجراد المنظم



ويقال للجاسوس : ذو العينين ، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون . الأنف : معروف ; والجمع آناف وآنف وأنوف .

المهيمن : الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له ، وهو اسم فاعل من هيمن ; قالوا : ولم يجئ على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ : هيمن ، وسيطر ، وبيطر ، وحيمر ، وبيقر ، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب ، ومعناه : سار من الحجاز إلى اليمن ، ومن أفق إلى أفق . وهيمن بنا أصل . وذهب بعض اللغويين إلى أن مهيمنا اسم فاعل من أمن غيره من الخوف ، قال : فأصله مأمن ، قلبت الهمزة الثانية ياء ، كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن ، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا : أهراق في أراق ، وهياك في إياك ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها . وأيضا فالهمزة في مؤمن - اسم فاعل من آمن - قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين ، فلا يدعى أنها أقرت وأبدل منها . وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن ، وأبدلت همزته هاء ، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول . واعلم أن أسماء الله تعالى لا تصغر . الشرعة : السنة والطريقة ; شرع يشرع شرعا ; أي : سن ، والشارع الطريق الأعظم ، ومنزل شارع : إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ . المنهاج والمنهج : الطريق الواضح ، ونهج الأمر استبان ، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته ، ونهجت الطريق سلكته .

( ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أن يهوديا زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة . وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه . وقال قتادة : السبب أن بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيريا قتل به ، أو نضيري قرظيا أعطى الدية . وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابنا عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فقالت بنو النضير : إن حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا . وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية . وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح . وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلا من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا : فإن أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل . وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في [ ص: 487 ] الأرض فسادا ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض . ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم . ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي ( ياأيها الرسول بلغ ) ويا أيها النبي في مواضع ، تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : ( ياآدم اسكن ) و ( يانوح اهبط ) ، ( ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ، ( ياموسى إني اصطفيتك ) ، ( ياعيسى إني متوفيك ) ، ( يايحيى خذ الكتاب ) . وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود . والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإن الله ناصرك عليهم ، ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعا ; ومسارعتهم في الكفر : وقوعهم وتهافتهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيها وتقسيما للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف ; أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود ; ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله :


أقارع عوف لا أحاول غيرها     وجوه قرود تبتغي من تخادع



ويجوز أن يكون : ( ومن الذين هادوا ) استئنافا ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا ; والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا ; بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاما منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما ينكرونه . ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا ( وما أولئك بالمؤمنين ) ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم ، ولكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها . انتهى . وهو احتمال بعيد متكلف ، وسماعون من صفات المبالغة ، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولا من أجله ، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك ، وينقلون حديثك ، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذبا . وإن كان للكذب مفعولا به لقوله : سماعون ، وعدي باللام على سبيل التقوية للعامل ، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه " سمع الله لمن حمده " وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثيا ورباعيا . وقرأ السلمي : يسرعون ، بغير ألف ، من أسرع . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب ، بكسر الكاف وسكون الذال . وقرأ زيد بن علي : الكذب ، بضم الكاف والذال ، جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ; أي : سماعون لكذب الكذب .

التالي السابق


الخدمات العلمية