الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا : شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ، ومهما أدرك من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء ، فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا ، فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم ، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ، ولا أجل ، ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب ، كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين . فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس ، كل شوب محبطا للأجر ، مفسدا للعمل ، بل فيه تفصيل .

فإن قلت : فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته ، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم ؟ فنقول :

أولا كل سرور فليس بمذموم ، بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم .

فأما المحمود فأربعة أقسام :

الأول : أن يكون قصده إخفاء الطاعة ، والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ، ونظره إليه وألطافه ، به ، فإنه يستر الطاعة والمعصية ، ثم الله يستر عليه المعصية ، ويظهر الطاعة ولا ، لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا بحمد الناس ، وقيام المنزلة في قلوبهم ، وقد قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ، ففرح به .

الثاني : أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة .

فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل ، وهذا التفات إلى المستقبل .

الثالث : أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف ، بذلك أجره ، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا ، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور ، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ ، وموجب للسرور ، لا محالة .

الرابع : أن يحمده المطلعون على طاعته ، فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم ، وبحبهم للمطيع ، وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذ من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ، ولا يحمده عليه ! فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله .

وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمدهم غيره مثل فرحه بحمدهم إياه .

وأما المذموم وهو الخامس فهو ، أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس ؛ حتى يمدحوه ويعظموه ، ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه ، بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم .

التالي السابق


(فإذا: شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومهما أدرك من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء، فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضرته البهائم أم الصبيان الرضع أو غابوا) وسواء (اطلعوا على حركته أو لم يطلعوا، فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق، ولا أجل، ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب، كما لا تقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين .

فإذا لم يجد ذلك) أي: إدراك التفرقة من نفسه (ففيه شوب رياء خفي، وليس كل شوب محبطا للأجر، مفسدا للعمل، بل فيه تفصيل) سيأتي ذكره في الفصل الذي يليه .

(فإن قلت: فما يرى أحد ينفك عن السرور إذا عرف بطاعته، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم؟

فنقول: أولا كل سرور فليس بمذموم كله، بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم، فأما المحمود فأربعة أقسام:

الأول: أن يكون قصده إخفاء الطاعات، والإخلاص لله تعالى) منها (ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم) عليه (وأظهر الجميل من أحواله [ ص: 284 ] فيستدل به على حسن صنع الله، ونظره، وألطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية، ثم الله يستر عليه المعصية، ويظهر الطاعة، فلا لطف أعظم من ستر القبيح عليه وإظهار الجميل) وقد ورد في بعض الأدعية "يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة" وقد تقدم في الدعوات .

(فيكون فرحه بجميل نظر الله له) وحسن عنايته به، ورعايته له (لا بحمد الناس، وقيام المنزلة في قلوبهم، وقد قال تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول، ففرح به) ولكن ليس لكل أحد لم يختبر نفسه وعلم دسائسها أن يقول: إنه مقبول عند الله؛ ففيه خطر عظيم، زلت بسببه أقدام خلق كثير .

(الثاني: أن يستدل بإظهار الله تعالى الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة؛ إذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ستر الله على عبد ذنبا) من ذنوبه (في الدنيا) بأن لم يفضحه به (إلا ستره عليه في الآخرة") فلا يفضحه به على رؤوس الأشهاد. قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: ورواه ابن النجار، عن علقمة المزني، عن أبيه، واسمه: عبد الله بن سنان المزني، له صحبة، وعلقمة هذا أخو بكر المزني في قول البخاري، وخالفه غيره .

وروى الطبراني والخطيب من حديث أبي موسى: "ما ستر الله -عز وجل- على عبد في الدنيا فيعيره به يوم القيامة".

(فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل، وهذا التفات في المستقبل) وقد يجتمعان معا في مؤمن، فيكون سببا لمزيد فرحه، ولكن بشرط أنه إذا صدر منه القبيح فرطا من غير تصميم العزم عليه، ثم ستره الله تعالى عليه ندم وأحسن توبته، فهذا الذي يرجى له الستر في الآخرة .

وأما من ستر الله عليه ذلك، وهو مصمم على الوقوع فيه، أو العود إليه، فليس له في الآخرة نصيب، وربما يفضحه الله في جوف بيته، فليحذر السالك من ذلك .

(الثالث: أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة، فيضاعف بذلك أجره، فيكون له أجر العلانية بما ظهر آخرا وأجر السرور بما قصده أولا، ومن اقتدى به في طاعة فله أجر عمل المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء) ويشهد لذلك ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة: "من سن خيرا فاستن به كان له أجره كاملا، ومن أجور من استن به، ولا ينقص من أجورهم شيء" الحديث .

ورواه السجزي في الإبانة بلفظ: "من سن سنة هدى فاتبع عليها كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء" الحديث .

وروى مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث جرير: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث .

(وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ، وموجب للسرور، لا محالة .

الرابع: أن يحمده المطلعون على طاعته، فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم، وبحبهم للمطيع، وبميل قلوبهم إلى الطاعة) ويغتنم ذلك منهم، ويسره ذلك (إذ) كم (من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته) بقبله (أو يحسده) على ما أوتيه (أو يذمه) تبرعا (ويهزأ به ويسبه) في المجالس (أو ينسبه إلى الرياء، ولا يحمده عليه! فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله) ولكن للشيطان في هذا الاسم تغريرات وتلبيسات؛ لذلك قلما يوجد معه الإخلاص .

(وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمدهم غيره مثل فرحه بحمدهم إياه) ومهما رأى نفسه تستثقل حمدهم غيره في مجلسه فاعلم أنه لا إخلاص حينئذ .

(وأما المذموم فهو الخامس، وهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس؛ حتى يمدحوه ويعظموه، ويقوموا بقضاء حوائجه، ويعاملوه بالإكرام في مصادره) حين يصدر (وموارده) حين يرد (فهذا مكروه) مذموم .




الخدمات العلمية