الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أفحكم الجاهلية يبغون ) هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل . وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم [ ص: 505 ] الله .

والحكم حكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله ; وحكم بجهل ، فهو حكم الشيطان ; وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض : فقرأ هذه الآية . وقرأ الجمهور : ( أفحكم ) ; بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكم الجاهلية ; برفع الميم على الابتداء . والظاهر أن الخبر هو قوله : ( يبغون ) ، وحسن حذف الضمير قليلا في هذه القراءة كون الجملة فاصلة . وقال ابن مجاهد : هذا خطأ . قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر . انتهى .

وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين . وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل . وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو ; وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في : أهذا الذي بعث الله رسولا وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت . وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيدا . انتهى . فإن كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف : فصيح ، وحذفه من الصفة : قليل ، وحذفه من الخبر : مخصوص بالشعر ، أو في نادر . وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح . وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبرا بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : ( من الذين يحرفون ) تقديره : قوم يحرفون . انتهى . وهو توجيه ممكن . وقرأ قتادة والأعمش : ( أفحكم ) ; بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد ; كأنه قيل : أحكام الجاهلية ; وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام . وقرأ الجمهور : ( يبغون ) ; بالياء على نسق الغيبة المتقدمة . وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والردع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير .

( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) أي لا أحد أحسن من الله حكما وتقدم أن احكم بينهم بما أنزل الله فجاءت هذه الآية مشيرة إلى هذا المعنى ; والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل وهو استفهام معناه التقرير ويتضمن شيئا من التكبر عليهم ، واللام في لقوم يوقنون : للبيان ; فتتعلق بمحذوف ; أي في هيت لك وسقيا لك ; أي : هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ; قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين لك ذلك ، ويظهر لقوم يوقنون . وقيل اللام بمعنى عند ; أي : عند قوم يوقنون ; وهذا ضعيف . وقيل تتعلق بقوله حكما ; أي : أن حكم الله للمؤمن على الكافر ، ومتعلق يوقنون محذوف ; وتقديره : يوقنون بالله ; قاله ابن عباس . وقيل : يوقنون بالله تعالى ; قاله مقاتل . وقال الزجاج : يوقنون : يثبتون عهد الله تعالى في حكمه وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكما .

التالي السابق


الخدمات العلمية