الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يا أيها النبي اتق الله أي: اثبت على تقوى الله، والخطاب؛ قيل: إنه له ولأمته، وقيل: لأمته دونه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولا تطع الكافرين يعني: في قولهم: اطرد عنا أتباعك، {والمنافقين}: فيما يظهرونه، ويبطنون خلافه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 271 ] وقوله: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث"، قال: فلذلك قدم ذكره في هذه الآية؛ والمعنى: أخذنا الميثاق على النبيين بأن يصدق بعضهم بعضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ليسأل الصادقين عن صدقهم معناه: أنه أخذ عليهم الميثاق؛ ليسألهم: ماذا أجابهم من أرسلوا إليه؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود الآية: هذا في وقعة الخندق؛ وهي الأحزاب، وكانت في شوال سنة خمس، فيما ذكره ابن إسحاق، وقال مالك: كانت سنة أربع.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان سببها: إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير.

                                                                                                                                                                                                                                      والأحزاب: قريش - وقائدها: [أبو سفيان - وغطفان - وقائدها]: عيينة بن حصن - والحارث بن عوف، في بني مرة، ومسعود بن رخيلة بن نويرة. [ ص: 272 ] في من تابعه من قومه من أشجع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقد ذكرت القصة مختصرة في "الكبير".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها : قال مجاهد: كانت الريح الصبا، كانت تكفأ قدورهم، وتنزع فساطيطهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: و (الجنود): الملائكة، ولم تقاتل يومئذ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم : الزجاج: (الذين جاءوا من فوق): بنو قريظة، و (الذين جاءوا من أسفل): من سواهم من الأحزاب، جاؤوا من ناحية مكة.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: (الذين جاءوا من فوقهم): عيينة بن حصن، جاءهم من بدر في أهل نجد، و (الذين جاءوا من أسفل منهم): أبو سفيان، وواجهتهم قريظة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذ زاغت الأبصار أي: عدلت، ومالت [عن القصد دهشا، وقيل: المعنى: زاغت عن النظر إلى كل شيء، فلم تنظر إلا إلى أعدائها].

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 273 ] وقوله: وبلغت القلوب الحناجر أي: شخصت عن مواضعها، وهو تمثيل لشدة الرعب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ويجوز أن يكون المعنى: أن أحدهم من شدة الخوف تنتفخ رئته؛ كما يقولون: (انتفخ سحره)، وإذا انتفخت الرئة؛ لم يمتنع أن يرتفع القلب.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون على تقدير إضمار (كادت) ؛ أي: وكادت القلوب تبلغ الحناجر].

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وتظنون بالله الظنونا : قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: هنالك ابتلي المؤمنون : أي اختبروا، {وزلزلوا} أي: خوفوا.

                                                                                                                                                                                                                                      والعامل في {هنالك}: يجوز أن يكون {ابتلي} ؛ فلا يوقف على {هنالك}، ويجوز أن يكون وتظنون بالله الظنونا ، فيوقف على {هنالك}.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا روي: أن المنافقين قالوا: يعدنا محمد بفتح مكة، وقسم كنوز فارس والروم، وهلاك قيصر وكسرى، ونحن لا يأمن أحدنا يذهب إلى الغائط، وما يعدنا إلا غرورا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن زيد: الذي قال: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا : معتب بن قشير.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 274 ] وقوله: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}: {يثرب}: اسم أرض، و (المدينة): في ناحية منها؛ والمعنى: أن طائفة من المنافقين قالوا لأهل يثرب: لا مقام لكم مع محمد، فارجعوا إلى منازلكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ويستأذن فريق منهم النبي أي: في الرجوع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يقولون إن بيوتنا عورة أي: ضائعة، ليس لها من يحفظها، ولا من يسترها.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس، ومجاهد: المعنى: نخاف أن تسرق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال يزيد بن رومان: قائل ذلك: أوس بن قيظي، عن ملأ من قومه.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس: هم بنو حارثة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وما هي بعورة أي: لأن الله يحفظها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن يريدون إلا فرارا أي: عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولو دخلت عليهم من أقطارها أي: نواحيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: {ثم سئلوا الفتنة لأتوها} أي: لجاءوها، وهذا على قراءة من قصر، ومن مد؛ فالمعنى على قراءته: لأعطوها من أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: {الفتنة}: الشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 275 ] وقوله: وما تلبثوا بها إلا يسيرا أي: بالمدينة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذا لا تمتعون إلا قليلا يعني: ما بينهم وبين الأجل، عن مجاهد وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: قد يعلم الله المعوقين منكم أي: الذين يثبطون الناس عن القتال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والقائلين لإخوانهم هلم إلينا يعني: أنهم كانوا يوصون بذلك إلى أبي سفيان، روي معناه عن قتادة وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن قولهم: هلم إلينا لأصحابهم؛ أي: هلموا إلينا ودعوا محمدا؛ فإنا نخاف عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد: نزلت في أخوين كان أحدهما مؤمنا، والآخر منافقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولا يأتون البأس إلا قليلا أي: لا يأتون الحرب إلا وقتا قليلا، أو إتيانا قليلا؛ رياء، لا حقيقة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ أشحة عليكم يعني: بالإنفاق في سبيل الله، وقيل: في الغنيمة]، وعن مجاهد وقتادة: أشحة عليكم بالحفر في الخندق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت يعني: أنهم من خوف القتال وتوقع الهلاك على الصفة المذكورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد : قال ابن عباس: أي: سلقوكم بالأذى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: سلقوكم بطلب الغنيمة، روي معناه عن قتادة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 276 ] يزيد بن رومان: سلقوكم بما تحبون؛ نفاقا منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: جادلوكم؛ يقال: (خطيب مسلاق، وسلاق) ؛ إذا كان بليغا؛ فالمعنى: بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: أشحة على الخير أي: على الغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك لم يؤمنوا أي: باعتقادهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: يحسبونهم مقيمين بالموضع الذي كانوا به؛ لشدة جبنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب : [أي: يود المنافقون -إذا جاءهم من يقاتلهم- لو أنهم بادون في الأعراب]؛ أي: غير حاضرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يسألون عن أنبائكم أي: عن أخباركم، ويظهرون لكم أنهم يقاتلون معكم، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة : (الإسوة): ما يتأسى به؛ أي: يتعزى به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله : قيل: إن الذي [ ص: 277 ] وعدهم الله به قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم [البقرة: 214] الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما أي: وما زادهم اجتماع الأحزاب عليهم، روي معناه عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: ما زادهم البلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء، وعلي بن سليمان: الضمير للرؤية، وتأنيثها غير حقيقي، ودل عليها: ولما رأى المؤمنون الأحزاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى إلا إيمانا وتسليما أي: إلا إيمانا بالله، وتسليما لأمره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية