الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - في كتابه "الفرقان" وهو من آخر مصنفاته، صنفه بقلعة دمشق، ما لفظه: (فإن قيل): فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم، وقال لهم: أنا المسيح، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم، وهذا أثر المسامير، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله [المائدة: 47] وقال قبل هذا: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة: 46 - 47] وقال قبل هذا: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء [ ص: 1702 ] [المائدة: 43 - 44] وقال أيضا: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] وقال أيضا: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [المائدة: 68] وهذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لأهل الكتاب - الذين بعث إليهم - وهو من كان في وقتهم، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك قوله: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله [المائدة: 43] إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوراة فيها حكم الله، وكذلك قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل قبل هذا: إنه قد قيل: ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدل، فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال: بل ذلك قليل، وقيل: لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين، والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض [ ص: 1703 ] نسخا صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسخا كثيرة محرفة، ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال: جميع النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ، وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى - عليه السلام - ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه مع ذلك التعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم [المائدة: 68] وقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] فإن إقامة الكتاب العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.

                                                                                                                                                                                                                                      وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك - ليس هو مما أنزله [ ص: 1704 ] الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة، يصنف الشخص كتابا، فيذكر ناسخه في آخره عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا (آمين) ولا غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والمصاحف القديمة - والتي كتبها أهل العلم - على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين - ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين، فقد دخلت الشبهة.

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: الحواريون - وكل من نقل عن الأنبياء - إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء، فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة، إن كان حقا قبل وإلا رد، ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والحديث يجب قبوله، لا سيما المتواتر، كالقرآن وكثير من السنن.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما قالوه: فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه رد إلى الله والرسول، وعمر قد كان أولا أنكر موت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رد ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في [ ص: 1705 ] تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعي الزكاة، فلم يكن هذا قادحا فيما نقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه، فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرا، وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل: إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس، وحينئذ [ ص: 1706 ] فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، ولكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال: أنا المسيح ، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرا ما تجيء ويدعي (كذا) إنه نبي أو صالح، ويقول: أنا فلان النبي والصالح، ويكون شيطانا، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاء وقال: أنا المسيح جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان، فقال: أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك.

                                                                                                                                                                                                                                      فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب، كما قال تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157] وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [النساء: 157] فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون، وهم آثمون، وإذا قالوه فخرا لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1707 ] وقوله: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه قيل: هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لفي شك منه من قتله، وقيل: منه، أي: في شك منه، هل صلب أم لا؟ كما اختلفوا فيه، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم، فإذا كان هذا في الصلب، فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال: إنه هو المسيح؟

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا [آل عمران: 55] وقوله: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [الصف: 14]؟ قيل: ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلا له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء. قال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [آل عمران: 146] [ ص: 1708 ] الآية. وقال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران: 143] وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في اليقظة؛ فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعا للسنة وأتباعا لها، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله، فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه. وعمر لما كان يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن [ ص: 1709 ] هذا قادحا في إيمانه، وإنما كان غلطا ورجع عنه. وقوله تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله قصيدة في هذا المقام، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام، قال -قدس سره -:


                                                                                                                                                                                                                                      جاء المسيح من الإله رسولا فأبى أقل العالمين عقولا     قوم رأوا بشرا كريما فادعوا
                                                                                                                                                                                                                                      من جهلهم لله فيه حلولا     وعصابة ما صدقته وأكثرت
                                                                                                                                                                                                                                      بالإفك والبهتان فيه القيلا     لم يأت فيه مفرط ومفرط
                                                                                                                                                                                                                                      بالحق تجريحا ولا تعديلا     فكأنما جاء المسيح إليهم
                                                                                                                                                                                                                                      ليكذبوا التوراة والإنجيلا     فاعجب لأمته التي قد صيرت
                                                                                                                                                                                                                                      تنزيهها لإلهها التنكيلا     وإذا أراد الله فتنة معشر
                                                                                                                                                                                                                                      وأضلهم رأوا القبيح جميلا     هم بجلوه بباطل فابتزه
                                                                                                                                                                                                                                      أعداؤه بالباطل التبجيلا     وتقطعوا أمر العقائد بينهم
                                                                                                                                                                                                                                      زمرا ألم تر عقدها محلولا     هو آدم في الفضل إلا أنه
                                                                                                                                                                                                                                      لمن يعط حال النفخة التكميلا     أسمعتموا أن الإله لحاجة
                                                                                                                                                                                                                                      يتناول المشروب والمأكولا؟     وينام من تعب ويدعو ربه
                                                                                                                                                                                                                                      ويروم من حر الهجير مقيلا     ويمسه الألم الذي لم يستطع
                                                                                                                                                                                                                                      صرفا له عنه ولا تحويلا [ ص: 1710 ]     يا ليت شعري حين مات بزعمهم
                                                                                                                                                                                                                                      من كان بالتدبير عنه كفيلا؟     هل كان هذا الكون دبر نفسه
                                                                                                                                                                                                                                      من بعده أم آثر التعطيلا؟     زعموا الإله فدى العبيد بنفسه
                                                                                                                                                                                                                                      وأراه كان القاتل المقتولا     اجزوا اليهود بصلبه خيرا ولا
                                                                                                                                                                                                                                      تجزوا (يهوذا) الآخذ البرطيلا     أيكون قوم في الجحيم ويصطفي
                                                                                                                                                                                                                                      منهم كليما ربنا وخليلا     وإذا فرضتم أن عيسى ربكم
                                                                                                                                                                                                                                      أفلم يكن لفدائكم مبذولا؟     وأجل روحا قامت الموتى به
                                                                                                                                                                                                                                      عن أن يرى بيد اليهود قتيلا     فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم
                                                                                                                                                                                                                                      من كتبكم ما وافق التنزيلا     شهد الزبور بحفظه ونجاته
                                                                                                                                                                                                                                      أفتجعلون دليله مدخولا؟     أيكون من حفظ الإله مضيعا
                                                                                                                                                                                                                                      أو من أشيد بنصره مخذولا؟     أيجوز قول منزه لإلهه:
                                                                                                                                                                                                                                      سبحان قاتل نفسه مقتولا؟     أو جل من جعل اليهود بزعمكم
                                                                                                                                                                                                                                      شوك القتاد لرأسه إكليلا     ومضى لحبل صليبه مستسلما
                                                                                                                                                                                                                                      للموت مكتوف اليدين ذليلا     كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا
                                                                                                                                                                                                                                      أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا     ضل النصارى في المسيح وأقسموا
                                                                                                                                                                                                                                      لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا



                                                                                                                                                                                                                                      وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية