الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم تختم السورة بالإيقاعات الأخيرة، تلخص خطوطها الكثيرة، وتجمع إيقاعاتها المتفرقة:

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الإيقاع الأول فهو الإيقاع حول القيم والموازين كما هي في عرف الضالين، وكما هي على وجه اليقين، قيم الأعمال وقيم الأشخاص.

                                                                                                                                                                                                                                      قل: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قل: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين لا يوجد من هم أشد منهم خسرانا؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا فلم يؤد بهم إلى الهدى، ولم ينته بهم إلى ثمرة أو غاية: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا لأنهم من الغفلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى، فهم ماضون في هذا السعي الخائب الضال، ينفقون حياتهم فيه هدرا.

                                                                                                                                                                                                                                      قل هل ننبئكم من هم هؤلاء؟

                                                                                                                                                                                                                                      وعندما يبلغ من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم:

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلإ ثم تلقى حتفها، وهو أنسب شيء لوصف الأعمال، إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة، ثم تنتهي إلى البوار!.

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم .. فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا .

                                                                                                                                                                                                                                      فهم مهملون، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة يوم القيامة ولهم بعد ذلك جزاؤهم:

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتم التعاون في المشهد بعرض كفة المؤمنين في الميزان وقيمتهم:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا. خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم، وشتان شتان!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله: لا يبغون عنها حولا .وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة.

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم خالدون في جنات الفردوس؛ ولكن النفس البشرية حول قلب تمل الاطراد، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد; وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه.وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه، بل قد تنتهي إلى الضيق به والرغبة في الفرار منه!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2296 ] هذه هي الفطرة التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة، فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله.ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل; وحب الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام.وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة، ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور; وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم، والتعلق بالمألوف، والمحافظة على العادة.ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع، ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود، إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع.وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال.وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما إذا غلب الركود والجمود، فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض، فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق، فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة.ولو بقيت النفس بفطرة الأرض، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد، ولا تتحول هي عنه، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان; ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة، ولو إلى الجحيم، ليرضوا نزعة التغيير والتبديل!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن بارئ هذه النفس - وهو أعلم بها - يحول رغباتها، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد!.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود; ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.

                                                                                                                                                                                                                                      قل: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون; وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!.

                                                                                                                                                                                                                                      فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه; فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد!.

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة.ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج.ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2297 ] لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس; ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.

                                                                                                                                                                                                                                      والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا. وهو - على سعته وغزارته - محدود.

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته; بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله. فضلا على محاكاته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي، فيحسبون أنهم علموا كل شيء، أو أنهم في الطريق!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم!.

                                                                                                                                                                                                                                      إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله ضئيل قليل، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود.

                                                                                                                                                                                                                                      فليعلم الإنسان ما يعلم; وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف، ولكن ليطامن من غروره العلمي، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده. وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد; ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة، فيرسم أعلى أفق للبشرية - وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة. فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار، وتنحسر دونه الأنظار:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه أفق الألوهية الأسمى. فأين هنا آفاق النبوة، وهي - على كل حال - آفاق بشرية؟.

                                                                                                                                                                                                                                      قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ... .. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى، بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب، بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه، بشر يتعلم فيعلم فيعلم، فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها:

                                                                                                                                                                                                                                      فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تختم السورة - التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد - بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير..

                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية