الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر محاربة شبيب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وقتل عثمان بن قطن

ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وأمره أن ينتخب من الناس ستة آلاف فارس ، ويسير في طلب شبيب أين كان ، ففعل ذلك وسار نحوه ، وكتب الحجاج إليه وإلى أصحابه يتهددهم بالقتل والتنكيد إن انهزموا .

فوصل عبد الرحمن إلى المدائن ، فأتى الجزل يعوده من جراحته ، فأوصاه الجزل بالاحتياط ، وحذره من شبيب وأصحابه ، وأعطاه فرسا كانت له تسمى الفسيفساء ، وكانت لا تجارى ، ثم ودعه عبد الرحمن وسار إلى شبيب .

فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور ، فخرج عبد الرحمن في طلبه ، حتى إذا كان بالتخوم وقف وقال : هذه أرض الموصل فليقاتلوا عنها . فكتب إليه الحجاج : أما بعد ، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك ، حتى تدركه فتقتله أو تنفيه ، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده ، والسلام .

فخرج عبد الرحمن في أثر شبيب ، [ فكان شبيب ] يدعه حتى يدنو منه فيبيته ، فيجده قد خندق على نفسه وحذر ، فيتركه ويسير ، فيتبعه عبد الرحمن . فإذا بلغ شبيبا مسيره أتاهم وهم سائرون ، فيجدهم على تعبية فلا يصيب منه غرة ، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخا أو ما يقاربها فينزل في أرض خشنة غليظة ويتبعه عبد الرحمن ، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك ، حتى عذب ذلك الجيش وشق عليه وأحفى دوابهم ، ولقوا منه كل بلاء ، ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين وجلولاء وسامرا ، ثم أقبل إلى البت ، وهي من قرى الموصل ، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا ، وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى ، ونزل عبد الرحمن في عواقيل من النهر ; لأنها مثل الخندق .

[ ص: 451 ] فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن يقول : إن هذه الأيام عيد لنا ولكم ، يعني عيد النحر ، فهل لك في الموادعة حتى تمضي هذه الأيام ؟ فأجابه إلى ذلك ، وكان يحب المطاولة ، وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج : أما بعد ، فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلها خندقا واحدا ، وكسر خراجها ، وخلى شبيبا يأكل أهلها ، والسلام . فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش ، وجعله أميرهم ، وعزل عنهم عبد الرحمن ، وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة ، وسار عثمان حتى قدم على عبد الرحمن وعسكر الكوفة ، فوصل عشية الثلاثاء يوم التروية ، فنادى الناس وهو على بغلة : أيها الناس ، اخرجوا إلى عدوكم . فوثب إليه الناس وقالوا : هذا المساء قد غشينا ، والناس لم يوطنوا أنفسهم على الحرب ، فبت الليلة ثم اخرج على تعبية ، وهو يقول : لأناجزنهم ، فلتكونن الفرصة لي أو لهم . فأتاه عبد الرحمن فأنزله .

وكان شبيب قد نزل ببيعة البت ، فأتاه أهلها فقالوا له : أنت ترحم الضعفاء وأهل الذمة ، ويكلمك من تلي عليه ويشكون إليك فتنظر إليهم ، وإن هؤلاء جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر ، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إذا ارتحلت عنا ، فإن رأيت أن تنزل جانب القرية ولا تجعل علينا مقالا فافعل . فخرج عن البيعة فنزل جانب القرية .

وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه ، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم ، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة شديدة ، فصاح الناس وقالوا له : ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا . فأقام بهم ذلك اليوم ، ثم خرج بهم يوم الخميس وقد عبأ الناس ، فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس ، وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي ، ونزل هو في الرجالة ، وعبر شبيب النهر إليهم ، وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا ، فوقف هو في الميمنة ، وجعل أخاه مصادا في القلب ، وجعل سويد بن سليم في الميسرة ، وزحف بعضهم إلى بعض .

وقال شبيب لأصحابه : إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر ، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري .

وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا ، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل ، وقتل أيضا مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش بن عبد الله المنتوف ، ودخل شبيب عسكرهم ، وحمل سويد على ميمنة عثمان ، فهزمها وعليها خالد بن نهيك ، فقاتله قتالا شديدا ، وحمل شبيب من ورائه فقتله .

وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب ، وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلا ، فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن [ ص: 452 ] معه ، فضاربوهم حتى فرقوا بينهم ، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم ، فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم ، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله ، ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعة ، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال ، ثم إنهم أحاطوا به ، وضربه مصاد أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال : وكان أمر الله مفعولا ، ثم إن الناس قتلوه ، ووقع عبد الرحمن ، فأتاه ابن أبي سبرة الجعفي ، وهو على بغله ، فعرفه فأركبه معه ، ونادى في الناس : الحقوا بدير أبي مريم ، ثم انطلقا ذاهبين .

ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاه الجزل تجول في العسكر ، فأخذها بعض أصحاب شبيب ، فظن أنه قتل ، فطلبه في القتلى فلم يجده ، فسأل عنه فأعطي خبره ، فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل ، فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا ، فلما رآهما واصل عرفهما وقال : إنكما تركتما النزول في موضعه ، فلا تنزلا الآن ! وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه ، وقال لابن الأشعث : قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه . فركبه وسار حتى نزل دير البقار .

وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه .

وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون ، وقتل معظم العرفاء .

وبات عبد الرحمن بدير البقار ، فأتاه فارسان فصعدا إليه ، فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا ، ثم نزلا ، فتبين أن ذلك الرجل كان شبيبا ، وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة ، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم ، فاجتمع الناس إليه وقالوا له : إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة . فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية