الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وسواء في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه ، ويلزمه منها في ماله ما يلزم غير المحجور . والجناية خلاف البيع والشراء . فإن قال قائل : كيف يحلفون على ما لا يعلمون ؟ قيل : فأنتم تقولون : لو أن ابن عشرين سنة رئي بالمشرق اشترى عبدا ابن مائة سنة رئي بالمغرب ، فباعه من ساعته ، فأصاب به المشتري عيبا ، أن البائع يحلف على البت لقد باعه إياه وما به هذا العيب ولا علم له به . والذي قلنا قد يصح علمه بما وصفنا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الحجر فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون لارتفاع القلم كالجنون والصغر ، فيمتنع من سماع الدعوى منه وعليه : لأنه لا حكم لقوله في مال ولا بدن .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مع ثبوت القلم عليه بالبلوغ والعقل ، وقد ثبت الحجر فيه بأحد خمسة أسباب : السفه والفلس والمرض والرق والردة .

                                                                                                                                            وهذه المسألة مقصورة على الحجر بالسفه ؛ لأن ما عداه له مواضع قد مضى بعضها ويأتي باقيها ، وإذا كان كذلك لم يخل حال المحجور عليه بالسفه من أن يكون مدعيا أو مدعى عليه ، فإن كان مدعيا ، سمعت دعواه وكان فيها الرشيد ، وإن توجهت عليه يمين إما ابتداء في القسامة أو انتهاء في الرد بعد النكول حلف فيها ، وحكم له بموجبها [ ص: 30 ] كالرشيد : لأن في ذلك حفظ لماله ، والحجر يمنعه من إتلافه ، وإن كان مدعى عليه سمعت الدعوى عليه : لأنه قد ينكرها فيستحلف عليها أو تشهد بها بينة ، فيكون لها حكم . وإذا كان كذلك لم تخل الدعوى عليه من أن تكون في دم أو مال ، فإن كانت في دم ، لم تخل من أن تكون موجبة للقسامة ، أو غير موجبة لها . فإن أوجبت القسامة لوجود اللوث في قتل نفس ، فللمدعي أن يقسم على المحجور عليه ، كما يقسم على الرشيد ، ويقضى عليه بموجب أيمانه إذا حلف . فإن نكل عن الأيمان ردت على المحجور عليه ، فإن حلف برئ ، وإن نكل قضي عليه بالدعوى ، وكان فيما يجب عليه بنكوله كالرشيد . وإن كانت دعوى الدم غير موجبة للقسامة ، فهي على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون في عمد يوجب القود ، فتسمع الدعوى عليه ، فإن أقر بها صح إقراره كما يصح إقرار العبد بها : لانتفاء التهمة عنه ، فإن عفي عن القود وجبت الدية في ماله ، وأخذت منه مع بقاء حجره . وإن نكل عن اليمين ردت على المدعي ، وحكم له بدعواه إذا حلف ، وخير بين القود والدية .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون في خطأ يوجب المال دون القود ، فتسمع الدعوى عليه ، فإن أقر بها ففي صحة إقراره قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : - وهو الأصح - أنه لا يصح كالمال .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يصح : لتغليظ حرمة الدماء والنفوس ، كالعمد . فإن أبطل إقراره بها لم يلزمه ولا عاقلته ، وإن صح إقراره بها لزمته الدية في ماله دون عاقلته ، إلا أن يصدقوه عليها فيتحملونها عنه . وإن أنكر الدعوى ، أحلف عليها ، فإن حلف برئ ، وإن نكل عن اليمين ، فإن قلنا إن إقراره يصح ردت اليمين على المدعي وحكم له إذا نكل ، وهل تجب الدية على عاقلته أم لا ؟ على قولين : بناء على اختلاف قوليه في يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه ، هل تقوم مقام البينة أو مقام الإقرار ؟ فإن قيل : إنها تقوم مقام البينة ، تحملت العاقلة الدية كما تتحملها بالبينة . وإن قيل : إنها تقوم مقام الإقرار لم تتحملها العاقلة ، كما لا تتحملها بإقراره . وإن قلنا : إن إقرار السفيه بها باطل ، ففي رد اليمين على المدعي بعد نكول السفيه عنها قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : ترد عليه إذا قيل إن يمينه كالبينة .

                                                                                                                                            والثاني : لا ترد إذا قيل إن يمينه كالإقرار .

                                                                                                                                            فصل :

                                                                                                                                            وإن كانت الدعوى في مال محض سمعت عليه ، فإن أنكرها حلف وبرئ ، وإن نكل عنها كان في رد اليمين على المدعي ما قدمناه من القولين ، فإن أقر بها لم يلزمه إقراره قولا واحدا : لما تضمنه من استهلاك ماله الذي هو متهوم فيه ، فلا يلزمه في ظاهر الحكم . وهل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى أم لا ؟ معتبرا بالمال ، فإن كان عن [ ص: 31 ] إتلاف ، واستهلاك ، إما لنفس أو مال ، لزمه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن لم يلزمه في ظاهر الحكم ما كان حجره باقيا . فإذا فك حجره غرمه ، وإن كان عن معاملة ومراضاة لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى .

                                                                                                                                            كما يلزمه في ظاهر الحكم ، ولا يلزمه غرمه بعد فك حجره ، وهو معنى قول الشافعي : والجناية خلاف البيع والشراء .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن ديون المراضاة كانت باختيار صاحبها ، فصار هو المستهلك لها بإعطائه إياها ، وديون الجنايات والاستهلاك عن المراضاة ، فلم يكن من صاحبها ما يوجب سقوط غرمها ، فافترقا من هذين الوجهين فيما بينه وبين الله تعالى ، وفي الرجوع به بعد فك الحجر . فعلى هذا : إن استحق الغرم في استهلاك مال عمل ، غرمه عند فك حجره : لأن غرم الأموال المستهلكة معجل ، وإن استحق في دية خطأ يلزم تأجيلها ، ففي ابتداء الأجل وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : من وقت الإقرار لوجوبها به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : من وقت فك حجره : لأنه بفك الحجر صار من أهل غرمها . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية