الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح : ( اعبدوا الله ربي وربكم ) والثاني بقوله : ( وما من إله إلا إله واحد ) أثبت له الرسالة بصورة الحصر ; أي : ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلها وكونه أحد آلهة ثلاثة ، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا ، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا ، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق البحر وطمس على يد موسى ، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى . وفي قوله : إلا رسول ; رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة ، وحيث ادعوا أنه ليس لرشدة . وقرأ حطان : من قبله رسل بالتنكير .

( وأمه صديقة ) هذا البناء من أبنية المبالغة ، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد ، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير ، وشريب وطبيخ ، من سكت وسكر ، وشرب وطبخ . ولا يعمل ما كان مبنيا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال ، فلا يقال : زيد شريب الماء ، كما تقول : ضراب زيدا ; والمعنى : الإخبار عنها بكثرة الصدق . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من التصديق ; وبه سمي أبو بكر الصديق . ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق . وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء . قال الزمخشري : وأمه صديقة ; أي : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي ، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم ؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه . انتهى . وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه ، من ذلك أن قوله : وأمه صديقة ; ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق ، وجعله هو من باب الحصر فقال : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره ، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه . قال الحسن : صدقت جبريل ، عليه السلام ، لما أتاها كما حكى تعالى عنها : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه ) . وقيل : صدقت بآيات ربها ، وبما أخبر به ولدها . وقيل : سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله ، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود . وقيل : وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية ، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة . قال تعالى : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) ومن ذلك أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشرا نبوته فقد كلمت الملائكة قوما ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة : الأقرع ، والأعمى ، والأبرص ; فكذلك مريم .

( كانا يأكلان الطعام ) هذا تنبيه على سمة الحدوث ، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية ، لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك ، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام ، ولا حاجة تدعو إلى قولهم : كانا يأكلان الطعام ; كناية عن خروجه ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث . والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله ، قال تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم ) وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه ، فليس مقصودا من اللفظ مستعارا له ذلك . وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه ، منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث ، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب . ( انظر كيف نبين لهم الآيات ) [ ص: 538 ] أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه ، وهذا أمر للنبي ، صلى الله عليه وسلم . وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه . ( ثم انظر أنى يؤفكون ) كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق ، لأن الأول : أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس ، والأمر الثاني : هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه ، وهذان أمرا تعجيب . ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين ، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها ، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها ، فكونهم أفكوا عنها أعجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية