الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم ، وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي ، فلنذكر كيفية توزعها عليها .

الرتبة الأولى : وهي رتبة الهالكين ، ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون ، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ولذلك قال العارفون : ليس خوفنا من نار جهنم ، ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط ، وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها ، وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ، ولذلك قيل .

وفي فؤاد المحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردها ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة ; إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار ، وعلى أصول القصب الجارحة القدم ، وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الغضب قطعة من النار واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد ، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه ، فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث أنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطة تأليف أشد إحكاما من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاما ، إن كنت من أرباب البصائر ، وأرباب القلوب ، ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم ، فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان ، وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلا ، ولم يعد ذلك ألما ، وقال : العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه ، بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوبا ، ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذا ، وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ، ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ، ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب ، وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ، ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور ، والألوان وليس لكل إنسان قلب ، ولو كان لما صح قوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلسا من القلب ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم ، الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه ، وسائر الأعضاء عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعا ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه : قل الروح من أمر ربي هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيبا ، وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادئ روائح المعنى المطوي تحت قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم على صورته ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل ; لأن الرحمة على قدر المصيبة ، ومصيبة أولئك أكثر ، وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم وحكمته ، يختص بها من يشاء ،ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر ، فلذلك لم نوردها .

التالي السابق


(وكذلك الهالكون الأيسون من رحمة الله تعالى تتفاوت دركاتهم، وهذه الدرجات والدركات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي، فلنذكر كيفية توزعها عليها) فنقول:

(الرتبة الأولى: وهي رتبة الهالكين، ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه لك) آنفا (آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال) ، فهذه الرتب قد رتبناها عليه، (وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين) أي: المنكرين، (والمعرضين) عن الله بالكلية (المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه) فلا يرفعون لهم رأسا (فإن السعادة الأخروية) إنما هي (في القرب من الله) تعالى، (والنظر إلى وجهه الكريم) من غير حجاب، (وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان) بالله تعالى، (والتصديق) لرسله وكتبه، (والجاحدون هم المنكرون، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الأبد وهم الذين يكذبون برب العالمين) جل جلاله، (وبأنبيائه المرسلين) ، وبالكتب المنزلة عليهم (أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة) كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون (وكل محجوب عن محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه) أشار بذلك إلى قوله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، ولا يكون ذلك إلا للمحجوبين (فهو لا محالة يكون محترقا مع نار جهنم) أشار إليه بقوله تعالى: ثم إنهم لصالو الجحيم (بنار الفراق) الحاصلة من الحجاب، (ولذلك قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين) في الجنات، (وإنما مطلبنا اللقاء) أي: مشاهدة الوجه الكريم، (ومهربنا من الحجاب فقط، وقالوا) أيضا (من يعبد الله بعوض فهو لئيم) وذلك (كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره، بل العارف) الكامل (يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته) ، ووجهه (فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها، وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت على النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق) هي (نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) ، وهي بواطن القلوب (ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام) فتذيبها (وألم الأجسام يستحقر مع الفؤاد، ولذلك قيل) قائله المتنبي:


وفي فؤاد المحب نار جوى

وفي نسخة: هوى

أحر نار الجحيم أبردها

، (ولا ينبغي أن ينكر هذا في عالم الآخرة; إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد) في السماع (فغدا على النار، وعلى أصول القصب) بعد أن قطعت وطارت كالأسنة (الجارحة للقدم، وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه) ، وتقدم في كتاب الوجد والسماع، (وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال) فيقاتل (فتصيبه جراحات) في بدنه، (وهو لا يشعر بها في حال) ، ويشعر بها في المستقبل بعد خمود نار الغضب; (لأن الغضب نار في القلب ) إذا تأججت شغلت القلب عن الإحساس بالألم. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الغضب قطعة من النار) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد بلفظ: "الغضب جمرة [ ص: 553 ] في قلب ابن آدم"، وسنده ضعيف، وقد تقدم في كتاب ذم الغضب، (واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف) أي: فلا يحس به (كما تراه، فليس التألم من النار والسيف إلا من حيث إنه) أي: كلا من النار والسيف (يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلوب وبين محبوبه الذي يرتبط به) ، وفي نسخة: المرتبط به (برابطة تأليف) الحب (أشد إحكاما من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاما، إن كنت من أرباب البصائر، وأرباب القلوب، ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم) ، ولا يحس به، (ويستحقره) أي: يجده حقيرا (بالإضافة إلى ألم الجسم، فالصبي لو خير بين ألم الحرمان من) لعب (الكرة والصولجان، وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان من رتبة السلطان أصلا، ولم يعد ذلك ألما، وقال: العدو) أي: الجري (في الميدان مع الصولجان) بضرب الكرة فيه (أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه، بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر) أي: اختار (الهريسة والحلواء) ولم يلتفت إلى الفعل الجميل، (وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوبا، ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذا، وذلك لمن استرقته) أي: استبعدته (صفات البهائم والسباع، ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين، ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب، وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان) ، وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جوهر اللسان، وبها تدرك الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية، (والسمع إلا في الأذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس) ، والإدراك (كمن لا سمع له، ولا بصر له ليس له لذة الألحان المطربة وحسن الصور، والألوان) المختلفة، (وليس لكل إنسان قلب، ولو كان لما صح قوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فجعل من لم يتذكر بالقرآن) ولم يتعظ به (مفلسا من القلب) أي: عاريا منه عادما له عرى المفلس من المال، وقد تقدم الكلام عليه في فصول مقدمة كتاب العلم عند ذكر مختارات أقوال المصنف، (ولست أعني بالقلب هذا اللحم) الصنوبري (التي تكتنفه عظام الصدر) في الجهة اليسرى، (بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر، وهو اللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه) المستوي عليه، (والصدر كرسيه، وسائر الأعضاء عالمه ومملكته) كما تقدم لك من قول سهل التستري في كتاب عجائب القلب، (ولله الخلق والأمر جميعا) قال الله تعالى: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، (ولكن ذلك السر الذي قال تعالى فيه: قل الروح من أمر ربي هو الأمر والملك) فاللطيفة من عالم الأمر، واللحم الصنوبري من عالم الخلق; (لأن بين عالم الأمر و) بين (عالم الخلق ترتيبا، وعالم الأمر أمير على عالم الخلق) وحاكم عليه، (وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح بها سائر الجسد) كما ورد ذلك في الخبر وتقدم، (من عرفها) أي تلك اللطيفة (فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه) كما ورد بذلك الخبر وتقدم (وعند ذلك يشم العبد) السالك (مبادئ روائح المعنى المطوي تحت قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق ادم على صورته) تقدم الكلام عليه قريبا، (وينظر بعين الرحمة [ ص: 554 ] إلى الجامدين) الواقفين (على ظاهر لفظه) ولا يؤولون، (وإلى المتعسفين في طريق تأويله) الخارجين عن الحدود، (وإن كانت رحمته للجامد) الواقف (على) ظاهر (اللفظ أكثر من رحمته للمتعسف في التأويل; لأن الرحمة على قدر المصيبة، ومصيبة أولئك الجامدين أكثر، وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر) إذ كل منهما لم يحقق الأمر تحقيقا شافيا، فهما مشتركان في الحرمان (فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهي حكمة) ربانية (يختص بهما من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولنعد إلى الفرض فقد أرخينا الطول) بكسر الطاء المهملة وفتح الواو: الحبل ومنه قول الشاعر:


لكاد لطول المرضى وثنياه باليد

، (وطولنا النفس) محركة هو الأصل، اسم للريح الداخل والخارج في البدن من الفم والمنخر، وهو كالغذاء للنفس، وبانقطاعه بطلانها (في أمر هو أعلى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين) بالله ورسله، (وشهادة ذلك من كتاب الله) تعالى (وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر، فلذلك لم نوردها) ، والله الموفق .




الخدمات العلمية