الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . قال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى آمنوا بالرسول فأثنى الله عليهم ، قيل : هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم ، فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع وقيل : هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن فقرأ عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يس فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله فيهم هذه الآية . وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران واثنين وثمانين من [ ص: 4 ] الحبشة ، وثمانية وستين من الشام .

وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ، وعلى العتو والمعاصي واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة فتحررت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم . وفي الحديث : ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله . وفي وصف الله إياهم بأنهم أشد عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق; ولذلك قل إسلام اليهود . وقيل : ( اليهود ) هنا هم يهود المدينة ; لأنهم هم الذين مالئوا المشركين على المسلمين . وعطف ( الذين أشركوا ) على ( اليهود ) جعلهم تبعا لهم في ذلك ، إذ كان اليهود أشد في العداوة إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة ، فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين; ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله; فهم أسرع للإيمان من كل أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، واللام في ( لتجدن ) هي الملتقى بها القسم المحذوف .

وقال ابن عطية : هي لام الابتداء وليس بمرضي ، و ( الناس ) هنا الكفار; أي ولتجدن أشد الكفار عداوة . ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) أي هم ألين عريكة وأقرب ودا . ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمة لهم الوفاء ، والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه دينا وإيمانا ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صاف ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة; لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك . وحين غلب الروم فارس سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ولإهلاك العدو الأكبر بالعدو الأصغر ، إذ كان مخوفا على أهل الإسلام . واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة . وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ، ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) وفي قوله تعالى : ( الذين قالوا إنا نصارى ) إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم وتعلق ( للذين آمنوا ) الأول ( بعداوة ) ، والثاني ( بمودة ) . وقيل : هما في موضع النعت ، ووصف العداوة بالأشد والمودة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل . وظاهر الآية يدل على أن النصارى أصلح حالا من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة; وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه .

قال بعضهم : وليس على ظاهره ، وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش; ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى ، وإخبارا بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك; لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول . ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود ; لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة ، وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه انتهى . كلام أبي بكر الرازي ; [ ص: 5 ] والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعا . وليس الكلام واردا بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك ، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم; لأنه قال : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) ، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادا ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك . والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود . ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه; أي منهم علماء وعباد ، وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين . واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ، ولذلك لا يرى فيهم زاهد . والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب ، والرهبة الخشية . وقيل : الرهبان مفرد كسلطان; وأنشدوا :


لو عاينت رهبان دير في القلل تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروى ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات . وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان ، وقيل : العالم ، وقيل : رافع الصوت بالقراءة ، وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلالة العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد; فيعظم عند مخترع الأشياء البارئ ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) هذا وصف برقة القلوب ، والتأثر بسماع القرآن . والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانا ، فيكون عاما ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم ، كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله ( ذلك عيسى ابن مريم ) ، وسورة طه إلى قوله ( وهل أتاك حديث موسى ) فبكى ، وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها ( يس ) فبكوا .

وقال ابن عطية : ما معناه : صدر الآية عام في النصارى ، و ( إذا سمعوا ) عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن ، فاضت أعينهم من خشية الله تعالى . انتهى .

وقال السدي : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والمسلمون واستغفروا له . ( وترى ) من رؤية العين ، وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :


ففاضت دموع العين مني صبابة

إقامة للمسبب مقام السبب; لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض; لأن الفيض على جوانب الإناء ناشئ عن امتلائه . قال الشاعر :


قوارض تأتيني ويحتقرونها     وقد يملأ الماء الإناء فيفعم

[ ص: 6 ] ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء ، لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و ( من ) في ( من الدمع ) قال أبو البقاء : فيه وجهان ، أحدهما : أن ( من ) لابتداء الغاية; أي فيضها من كثرة الدموع ، والثاني : أن يكون حالا ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و ( من الحق ) حال من العائد المحذوف ، أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا .

وقيل : ( من ) في ( من الدمع ) بمعنى الباء; أي بالدمع . وقال الزمخشري : ( من الدمع ) من أجل البكاء ، من قولك دمعت عينه دمعا . فإن قلت : أي فرق بين ( من ) و ( من ) في قوله : ( مما عرفوا من الحق ) قلت : الأول لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية : لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم . انتهى .

والجملة من قوله : ( وإذا سمعوا ) تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم . وقرئ : ( ترى أعينهم ) على البناء لما لم يسم فاعله ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) المراد بآمنا : أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية . والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك انتهى . وقال الطبري : معناه ولو قيل : معناه مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر ، لكان صوابا ، وقيل : مع الذين يشهدون بالحق . وقال الزجاج : المراد بالشاهدين : الأنبياء والمؤمنون والكتابة في اللوح المحفوظ ، وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند; أي ثبت ، و ( يقولون ) في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذلك الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالا من الضمير في أعينهم; لأنه مجرور بالإضافة ، لا موضع له من رفع ولا نصب ، إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في ( عرفوا ) لأنها تكون قيدا في العرفان ، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة . أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ، ونطقت به وأقرت ألسنتهم . ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ) هذا إنكار ، واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، وهو عرفان الحق . قال الزمخشري والتبريزي : وموجب الإيمان ، هو الطمع في دخولهم مع الصالحين . والظاهر أن قولهم ذلك ، هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها; لدفع الوساوس والهواجس إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق ، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضا ، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار لما رجعوا إليهم ، ولاموهم على الإيمان; أي وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده . وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير .

وروي عن ابن عباس أن اليهود [ ص: 7 ] أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك ، و ( لا نؤمن ) في موضع الحال ، وهي المقصودة ، وفي ذكرها فائدة الكلام ، وذلك كما تقول : جاء زيد راكبا ، جوابا لمن قال : هل جاء زيد ماشيا أو راكبا ؟ والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور; أي : أي شيء يستقر لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا . وفي مصحف عبد الله : ( وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع ) . وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى ( وما جاءنا من الحق ) لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف . ( ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين ، فالواو عاطفة جملة على جملة ، و ( ما لنا لا نؤمن ) لا عاطفة على نؤمن ، أو على لا نؤمن ، ولا على أن تكون الواو واو الحال ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه .

وقال الزمخشري : والواو في ( ونطمع ) واو الحال ، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في ( لا نؤمن ) ولكن مقيدا بالحال الأولى; لأنك لو أزلتها ، وقلت : وما لنا نطمع ، لم يكن كلاما انتهى .

وما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد ، وهو ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد; لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف ، إلا أفعل التفضيل ، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك ، وذو الحال هنا واحد ، وهو الضمير المجرور بلام لنا; ولأنه أيضا تكون الواو دخلت على المضارع ، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل ، فيحتاج أن يقدر : ونحن نطمع .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ( ونطمع ) حالا من ( لا نؤمن ) على أنهم أنكروا على أنفسهم; لأنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين انتهى .

وهذا ليس بجيد; لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ، ويحتاج إلى تأويل .

وقال الزمخشري : وأن يكون معطوفا على ( لا نؤمن ) على معنى ، وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام; لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين انتهى .

ويظهر لي وجه غير ما ذكروه ، وهو أن يكون معطوفا على نؤمن ، على أنه منفي كنفي نؤمن ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع ، فيكون [ ص: 8 ] في ذلك إنكار; لانتفاء إيمانهم ، وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين ، و ( مع ) على بابها من المعية ، وقيل : بمعنى في ، والصالحون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه ، قاله ابن زيد أو المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل ، وقيل : التقدير أن يدخلنا الجنة ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) ظاهره أن الإثابة بما ذكر ، مترتبة على مجرد القول ، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ، ويبين أنه مقترن به أنه قال : ( مما عرفوا من الحق ) فوصفهم بالمعرفة ، فدل على اقتران القول بالعلم . وقال : ( ذلك جزاء المحسنين ) فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر; تنبيها على هذا الوصف بهم وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم ، وهو رتبة الإحسان ، وهي التي فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة ، وإما أن يكون أريد به العموم ، فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي; ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا : بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان; أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى .

وفسروا هذا القول بقولهم : ( وما لنا لا نؤمن بالله ) والذي يظهر أنه عنى به قولهم ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) لأنه هو الصريح في إيمانهم ، وأما قوله : ( لا نؤمن بالله ) فليس فيه تصريح بإيمانهم ، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، فلا تترتب عليه الإثابة .

وقرأ الحسن ( فآتاهم ) من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة ، والإثابة أبلغ من الإعطاء; لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء ، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ، ولذلك جاء أخيرا ( وذلك جزاء المحسنين ) نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء ، والجزاء لا يكون إلا عن عمل ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) اندرج في ( الذين كفروا وكذبوا ) اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية