الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثامن: في قول الترمذي وغيره: "هذا حديث حسن صحيح" إشكال؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح كما سبق إيضاحه. ففي الجمع بينهما في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته.

وجوابه: أن ذلك راجع إلى الإسناد، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين: أحدهما إسناد حسن، والآخر إسناد صحيح - استقام أن يقال فيه: إنه حديث حسن صحيح، أي أنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر. على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده، فاعلم ذلك. والله أعلم.

[ ص: 341 ]

التالي السابق


[ ص: 341 ] 37 - قوله: (الثامن: في قول الترمذي وغيره: "هذا حديث حسن صحيح" إشكال؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح - كما سبق إيضاحه - ففي الجمع بينهما في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته.

قال: وجوابه أن ذلك راجع إلى الإسناد، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين: أحدهما إسناد حسن، والآخر إسناد صحيح - استقام أن يقال فيه: إنه حديث حسن صحيح، أي أنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر. على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من قال ذلك أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده، فاعلم ذلك) انتهى كلامه.

[ ص: 342 ] قد تعقبه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في (الاقتراح) بأن الجواب الأول ترد عليه الأحاديث التي قيل فيها: حسن صحيح، مع أنه ليس له إلا مخرج واحد. قال: "وفي كلام الترمذي في مواضع يقول: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه" انتهى.

وقد أجاب بعض المتأخرين عن ابن الصلاح بأن الترمذي حيث قال هذا يريد به تفرد أحد الرواة به عن الآخر لا التفرد المطلق.

قال: (ويوضح ذلك ما ذكره في الفتن من حديث خالد الحذاء، عن ابن سيرين عن أبي هريرة يرفعه: "من أشار إلى أخيه بحديدة" الحديث، قال فيه: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، فاستغربه من حديث خالد لا مطلقا) انتهى.

[ ص: 343 ] وهذا الجواب لا يمشي في المواضع التي يقول فيها: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه" كحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا" قال أبو عيسى: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ".

[ ص: 344 ] [ ص: 345 ] ورد ابن دقيق العيد الجواب الثاني بأنه يلزم عليه أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ أنه حسن، وذلك لا يقوله أحد من المحدثين إذا جروا على اصطلاحهم. انتهى.

قلت: قد أطلقوا على الحديث الضعيف بأنه حسن، وأرادوا حسن اللفظ لا المعنى الاصطلاحي، فروى ابن عبد البر في كتاب (بيان آداب العلم) حديث [ ص: 346 ] معاذ بن جبل مرفوعا: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل أهل الجنة. وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء. يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم. يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم. يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة. التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه السعداء أو يحرمه الأشقياء".

قال ابن عبد البر: "هو حديث حسن جدا، ولكن ليس له إسناد قوي" انتهى كلامه.

[ ص: 347 ] فأراد بالحسن حسن اللفظ قطعا، فإنه من رواية موسى بن محمد البلقاوي، عن عبد الرحيم بن زيد العمي. والبلقاوي هذا كذاب، كذبه أبو زرعة وأبو حاتم، ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث، والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه.

[ ص: 348 ] وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك أيضا.

وروينا عن أمية بن خالد قال: قلت لشعبة: تحدث عن محمد بن [ ص: 349 ] عبيد الله العرزمي وتدع عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت.

ولما ضعف ابن دقيق العيد ما أجاب به ابن الصلاح عن الاستشكال المذكور أجاب عنه بما حاصله أن الحسن لا يشترط فيه قيد القصور عن الصحيح، وإنما لحقه القصور حيث انفرد الحسن، وأما إذا ارتفع إلى درجة [ ص: 350 ] الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعا للصحة؛ لأن وجود الدرجة العليا وهي الحفظ والإتقان لا ينافي وجود الدنيا كالصدق، فيصح أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، صحيح باعتبار الصفة العليا. قال: ويلزم - على هذا - أن يكون كل صحيح حسنا، ويؤيده قولهم: "حسن" في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين. انتهى.

وقد سبقه إلى نحو ذلك الحافظ أبو عبد الله بن المواق، فقال في كتابه (بغية النقاد): "لم يخص الترمذي الحسن بصفة تميزه عن الصحيح، فلا يكون صحيحا إلا وهو غير شاذ، ولا يكون صحيحا حتى تكون رواته غير متهمين بل ثقات" قال: فظهر من هذا أن الحسن عند أبي عيسى صفة لا تخص هذا القسم، بل قد يشركه فيها الصحيح. قال: "فكل صحيح عنده حسن وليس كل حسن صحيحا" انتهى كلامه.

[ ص: 351 ] وقد اعترض على ابن المواق في هذا الحافظ أبو الفتح اليعمري فقال في (شرح الترمذي): "بقي عليه أنه اشترط في الحسن أن يروى من وجه آخر، ولم يشترط ذلك في الصحيح" انتهى.

هكذا اعترض أبو الفتح على ابن المواق بهذا في مقدمة شرح الترمذي، ثم إنه خالف ذلك في أثناء الشرح عند حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك" فإن الترمذي قال عقبه: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، [ ص: 352 ] ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة".

فأجاب أبو الفتح عن هذا الحديث بأن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير وجه ما كان راويه في درجة المستور، ومن لم تثبت عدالته. قال: وأكثر ما في الباب أن الترمذي عرف بنوع منه لا بكل أنواعه.

وأجاب بعض المتأخرين وهو الحافظ عماد الدين بن كثير في مختصره لعلوم الحديث عن أصل الاستشكال بما حاصله: أن الجمع في حديث واحد بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن. فقال: "والذي يظهر أنه يشرب الحكم بالصحة على الحديث بالحسن، كما يشرب الحسن بالصحة".

قال: "فعلى هذا يكون ما يقول فيه: (حسن صحيح) أعلى رتبة عنده من الحسن ودون الصحيح، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة [ ص: 353 ] أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن" انتهى.

وهذا الذي ظهر له تحكم لا دليل عليه، وهو بعيد من فهم معنى كلام الترمذي. والله أعلم. [ ص: 354 ]




الخدمات العلمية